لا يستطيع الإنسان في أغلب أنحاء العالم مقاومة النظر إلى تساقط رقاقات الثلج من السماء حيث يُشاهد في ذلك قدرة الله في رسم ملامح الشتاء فهذه الرقاقات تضفي في داخل المرء شعورًا سحريًا يجعله يضيع بين الفرح في بساطته والعاطفة في جمال منظره مما يجعله يتوق لرؤيتها كل عام لكن الثلج قد يكون نعمة ونقمة في بعض الأحيان، وفي كوريا تحديدًا أصبح لأول تساقط للثلوج معنى أكبر وحضور خاص بين الناس، فما هي المعتقدات والخرافات المتداولة لديهم؟
أولًا) يُعدُّ هذا اليوم بمثابة يومٍ للمزاح والكذب (كذبة أبريل)، تُغفر فيه جميع الأكاذيب حتى تلك التي تُقال للملك نفسه دون أن يُعاقب قائلها:
ثمّة اعتقاد شائع في الثقافة الكورية مفاده أن أول تساقط للثلوج يُمثّل يومًا مخصصًا للكذب والمزاح [تُغفر فيه الأكاذيب ولو طالت الملك نفسه] وتعود جذور هذا التقليد الطريف إلى عهد مملكة جوسون، وتحديدًا إلى السابع عشر من أكتوبر عام ١٤١٨م حين اعتلى الملك سيجونغ العرش عقب تقاعد والده الملك تايجونغ من منصبه.
كان تايجونغ يُعرف بلقب "الملك سانغ"، أي والد الملك الحاكم، وكان لديه أخٌ يُدعى نوسانغوانغ جيونغجونغ، ويُعرف بدوره باسم "الملك نوسانغ"، أي الأخ الأكبر لوالد الملك وبحسب ما دوّنته السجلات الملكية فقد صادف يوم اعتلاء سيجونغ العرش أول تساقط للثلوج في تلك السنة، فاستغل تايجونغ ذو ٥٢ عامًا المناسبة لصنع مزحة بريئة على سبيل المرح مع أخيه الأكبر جيونغجونغ ذي ٦٢ عامًا حيث أمر خادمه المخصي بوضع أول رقاقة ثلج تساقطت داخل صندوق صغير، وقيل في روايات أخرى إنه أعدّها بنفسه ثم أمر خادمه المخصي بإرسالها إلى أخيه جيونغجونغ على أنها دواء نادر ذو فوائد صحية عظيمة (طُلب من الخادم أن يزعم أنها طعام مفيد للجسم).
لكن جيونغجونغ الذي لا تنطلي عليه ألاعيب أخيه اكتشف المزحة على الفور: «ذلك العجوز لم يتغير قط!»، وفي رواية أخرى عندما فتح الصندوق وجد فيه عيونًا غريبة الشكل. في الحالتين لم يبتلع جيونغجونغ الطُعم، بل اشتعل غضبًا كالنار تحت رماد الثلج، وأمر فورًا أحد خدمه بملاحقة المخصي تشوي يو و القبض عليه لكن تشوي كما لو كان حصانًا بريًا أُطلق في صحراء هاربة من الثلج فرّ هاربًا ولم يُمسك به أحد. ترك الصندوق وراءه كأثر جريمة ضاحكة، وانطلق لا يُدرى له طريق ، وفي النهاية لم يسع الملك جيونغجونغ إلا أن يرضخ لروح الدعابة الملكية، فاشترى لأخيه مشروبًا كحوليًا كعربون مسامحة أو ربما كجزء من طقسٍ ملكي للاعتراف بالهزيمة في لعبة المزاح.
* شرح المزحة:
وفقًا لعادات مملكة جوسون كان يُرسل أول تساقط للثلوج بين الأمراء كختم للعام، وكان الشخص الذي يبعث الثلج يحصل على مكافأة إذا هرب قبل أن يُمسكه المُتلقي، وإذا لم يتمكن المُتلقي من الإمساك به، فعليه شراء الكحول للمُرسل، وإذا حدث العكس أي تم الإمساك بالمرسل فإنه يقوم بشراء الكحول للمُتلقي، وقد كانت هذه المزحة تعني أن كِلا الطرفين يخوض معركة غير مباشرة عبر كرات الثلج كما لو أنّ أحدهم قد صفع الآخر على الوجه لكنها صفعة بيضاء ناعمة يخفي الثلج فيها كلّ نوايا التحدي والمرح.
وبما أنّ حتى العائلة المالكة المُوقّرة كانت تقوم بالمقالب البسيطة، فقد سَمح الملك للرعيّة بممارستها أيضًا، ومنذ ذلك الحدث أصبح يُعتَقد أنّ كل الأكاذيب تُغفَر في هذا اليوم حتى تلك التي وُجّهت إلى الملك نفسه.
كما يعتبره المزارعون يومًا ميمونًا، إذ يُبشّرهم تساقط الثلج بموسم زراعيّ وفير في العام التالي فيمزحون ويُصلّون من أجل حصادٍ جيّد، وكأنّ المزحة تحوّلت إلى دعاء، وغالبًا ما يُقام احتفال وطنيّ بمناسبة أوّل تساقطٍ للثلوج في كوريا، و يعمّ الفرح الأرجاء، وكأنّ الطبيعة نفسها تُشارك الناس بهجتهم.
وهكذا تداخل التقليد بالتاريخ، وولدت طقوسٌ صغيرة تتكرّر في قلوب الكوريين مع كلّ رقّةِ ثلجٍ تسقط أوّل مرّةٍ من السماء، كأنها تهمس لهم: «اختر كذبةً لطيفةً اليوم... فلن يُعاقبك أحد».
ثانيًا) تمني الأمنيات:
يعتقد البعض أن تمني أمنية أثناء أول تساقط للثلج يضمن تحقيقها حيث يذهب الناس ويمشون على الثلج تاركين آثار أقدامهم ظنًا منهم أن هذا سيساهم بلا شك في تحقيق أمنياتهم وفي اليابان يُعتقد أن إذا تمكن المرء من التقاط أول ثلج في راحة يديه وتمنى أمنية قبل أن يذوب، فإن أمنيته ستتحقق مهما كانت لذا لا يرغب أي شخص في تفويت هذه الفرصة.
ثالثًا) تعويذة لاستمرار الحب الأبدي:
هنالك أسطورة تفيد بأنه إذا شاهد المرء أول تساقط للثلوج مع الشخص الذي يُحبه، فإن الحب الحقيقي بينهما سيزدهر وسيكون طويل الأمد، وأحيانًا تتغير الصيغة لتقول: إذا اعترف المرء لشخص ما أو كان مع شخص مقرب له أثناء تساقط الثلوج الأول، فإنهما سيظلان معًا لفترة طويلة أو حتى للأبد، ولهذا السبب يُخطّط الناس مع عائلاتهم أو أصدقائهم أو أحبابهم أو أزواجهم للتجمّع مُسبقًا في مكانٍ محدد خشيةَ ألّا يتمكنوا من اللقاء في هذا اليوم المهم، وهكذا يُصبح أول تساقطٍ للثلوج حدثًا ذا أهميةٍ بالغة إلى حدٍ قد يؤدي إلى الانفصال إن لم يتمكن الشخص من لقاء من يحب.
يُقال إنّ الرجال ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر للاعتراف بمشاعرهم أو للتقدّم بطلب الزواج ولهذا شاعت في كوريا عباراتٌ مثل: «لنذهب في موعد عندما تتساقط أولى الثلوج» أو «دعنا نلتقي في يوم تساقط الثلوج الأول».
يُقال إن الزوجين سيشيخان معًا إذ تساقطت الثلوج في يوم زفافهما.
رابعًا) فرصة للقيام بشيء مختلف:
يُعتبر تساقط الثلوج فرصة للقيام بشيء مختلف أو القيام بأنشطة خاصة في هذا اليوم المميز.
خامسًا) إثارة ذكريات الطفولة:
يساعد أول تساقط للثلوج في إحياء روح الطفولة داخل الإنسان ويعيد إلى الذاكرة لحظات البراءة واللعب في الثلج.
في تساقط الثلوج الأول، لا تهطل السماء بردًا فقط، بل تهطل وعدًا، رجاءً، وذكرى. هو موعدٌ لا يُكتب في التقاويم بل يُحفر في القلب… لمن ينتظر، ويؤمن، ويُحب.