فلسفة شبكة النعيم: قراءة في التاو تي تشينغ

الطَّاوِيَّة هي واحدة من أهم الفلسفات الصينية الكلاسيكية القديمة التي حلت محل الدين، وقد أسَّسها الفيلسوف الصيني لاو تسو (لاو تزوه) ويعني اسمه "المعلم المسن"، ويعود تاريخ الطَّاوِيَّة إلى الفترة الواقعة على الأقل بين أواسط القرن الرابع وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد.

ما معنى الطَّاوِيَّة؟ الكلمة في اللغة الصينية تعني "الطريق" أو "السبيل"، والفلسفة الطَّاوِيَّة تختص بالسير على طريق الكون أو الفضيلة متبعةً منوال الطبيعة وفقًا لقوانينها فالطاقة موجودة في كل شيء في الكون، وتقوده تلقائيًا وفقًا لطبيعة مغروسة في صميمه، ولذلك يجب الإنسجام والعيش في وئام مع الكون.

تعتمد الطَّاوِيَّة على الإيمان بموازنة القوى (الين واليانغ) لأن تناغم الكون يتحقق من خلال اندماجهما فعلاقة أحدهما بالآخر علاقة تكامل فلا يكتمل طرف أحدهما دون نقيضه الآخر، كخير وشر، وضوء وظلام، وسخونة وبرودة، وفعل وتقاعس.

عن ماذا يتحدّث كتاب "التاو تي تشينغ"؟ هو عبارة عن مجموعة من النصوص القصيرة المكتوبة بأسلوب شعري، وهو النصّ الرئيسي الذي يجسد الفكر الطاوي، ومن خلاله يقدّم لاو تسو نصائح عملية لفهم الوجود ونهج الحياة بما يتوافق مع الطبيعة، وطرقًا لكيفية الانسجام الذاتي مع طاقة الكون، ولذلك يُعتبر الكتاب مرجعًا روحيًا ودينيًا يعود إليه الشعب الصيني ليستلهم القيم والتعاليم الطاوية.

ذُكر نص "شبكة النعيم" أو "شبكة السماء الواسعة" في الفصل الثالث والسبعين:

(١٧٧)  الشخص الجريء الذي تكمن شجاعته في التهور والرعونة، كمن يتحدى القانون ويرتكب الجرائم سيُهلك حتمًا إما قاتلًا أو مقتولًا أما الشجاع الحليم المتأنّي الذي يتصف بالحكمة دون تهور والرعونة، فسوف يعيش ويواجه الحياة دومًا بثبات، فأيّ من هاتين الحالتين أنفع، وأيهما أضر؟ أحدهما يربح، والآخر يخسر.

(١٧٨) هناك أشياء ينفر منها طريق السماء / الجنة فما الذي تكرهه؟ الجنة تكره ما تكره، ولا أحد يعلم السبب حق المعرفة حتى الحكيم يجد صعوبة في فهم السبب بدقة.

(١٧٩) عندما تتبع طريق الجنة تنتصر بسهولة بلا نضال أو منافسة أو سعي. لن تنبس بكلمة، وستحصل على الإجابة فالأشياء تأتي من تلقاء نفسها فلا تطلب بلهفة، بل اجذب كل ما تحتاجه، ولا تشد على الأمور، بل تصرف برِاحة ونقاء، وخطط دون قلق.

(١٧٩) شبكة السماء واسعة تنتشر في الآفاق البعيدة على نطاق واسع، تمتد في كل الاتجاهات، تغطي الكون كله وتلتقط كل شيء، ومع ذلك لا شيء يخترقها لأنها تسير على طريق واضح نحو وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة.

شرح النص:
الأشخاص الجريئون الذين يقفزون نحو الخطر متهورين، ورفض ذلك النوع من الجرأة الخطرة يعد نوعًا آخر من الشجاعة التي قد يحتقرها البعض لكنها الأفضل والأجدر بالاحترام. الغريب أن المجتمع يهلل لذلك القفز نحو الخطر، وكأنهم يستقبلون الكارثة لغيرهم تحديدًا كما لو أن المجتمع ككل يغذي رغبة وتوقًا نحو الموت لذا يستنكر الفيلسوف الصيني لاو تسو هؤلاء الأشخاص الذين يغامرون بحياتهم
لأنهم يتعارضون مع الخطة والاتجاه الذي يشكل الطريق لذا يجب عليهم أن يحاولوا البقاء على قيد الحياة كوسيلة للتوافق مع طبيعتهم، وكلما ازداد تمسكهم بالحياة قل ميلهم للتصرف بشكل متهور يعرض أنفسهم للخطر، وسيصبح العالم مكانًا أكثر سلامًا للجميع.

من يتبع طريق السماء (الطاوِيَّة) ينتصر بلا منازع لأن هذا الطريق يُجذب إليه الإنسان دون استدعاء، فالشخص يعمل بما يتوجب عليه دون النظر إلى مردود أو عائد يغوص في ما بين يديه دون أن يقارن نفسه بالآخرين أو يسعى للتفوق عليهم، وهذا المنهج يقوده إلى النجاح بلا طلب، ويحقق ما يريد دون سعي، ويجني الربح بلا نضال لأن كل شيء مسطر وموزع منذ البداية، وكل ما عليه هو التكيّف معه ليأتي إليه من تلقاء نفسه، فالطاوِيَّة تحيط بكل شيء أينما تحركت وأينما توجهت، فلا مفر منها لأنها جزء لا يتجزأ منك، ويشبه لاو تسو الطاوِيَّة بشبكة تربط جميع الأشياء في العالم لكنها في الوقت ذاته تسمح لك بالتحرك بحرية تامة إلى حد ما دون أن تسمح لأي شيء آخر بالفرار منها رغم اتساع ثقبها لأنها النسيج الذي يتكون منه الكون.

ملحوظة: النصوص السابقة ليست حرفية، إذ إن النسخ الحرفي للنص الصيني (محاولة ترجمة النص الصيني بشكل مباشر) غالبًا ما يكون غير واضح ولا يحمل المعنى الكامل لذلك قمت بإعادة صياغة الكلمات بناءً على استيعابي الشخصي بهدف نقل المعنى بدقة ووضوح أكبر لذا فإن كتابتي ليست مطابقة تمامًا للنص الأصلي، بل محاولة لتبسيط وفهم الأفكار بشكل أفضل.

📝بِقلمي (سُبْحَانَكَ اللهُـمّ وَبِحمْدِكَ). 

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال