في عمق التاريخ الكوري تتلألأ أسطورة دانغون مؤسس الأمة وباني حضارتها الأولى التي تجمع بين الواقع والأسطورة، فما هي أسطورة دانغون؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذه المقالة.
هواننغ: الابن الفضولي وإذن السماء للحكم على الأرض
كان لهوانن / هوانين وهو إمبراطور السماء / رب السماء العديد من الأبناء، ومن بينهم "هوانونغ / هواننغ" ابنه الفضولي الذي كان يقضي غالبية وقته في التطلع إلى الأرض (العالم البشري) من السماء متشوقًا للعيش بين الأودية والجبال الجميلة، وفي يوم من الأيام استجمع شجاعته وأخبر والده هوانين برغبته: طلب الإذن للعيش على الأرض لإنقاذ العالم البشري، فنظر هوانين إلى الأرض وما حل بها من دمار وفساد وحروب حيث كان عالمًا فوضويًا ورأى أن هوانونغ سيكون له نفع كبير للناس على نطاق واسع، فوافق على طلبه ومنحه الإذن وأعطاه قبل رحيله ثلاثة أختام سماوية ليتمكن من الحكم بين الناس ونشر المعرفة، وهي عبارة عن جرس ومرآة وسيف كما سمح له بأن يأخذ معه ثلاثة آلاف عبد من بينهم سيد المطر وسيد الرياح وسيد السحب.
* في رواية أخرى: ذُكر أن هوانونغ كان يتمتم يوميًا وهو ينظر إلى الأرض حتى سمع والده هوانين (إمبراطور السماء) أفكاره، فطلب منه الذهاب إلى هناك.
هبوط هوانونغ إلى الأرض وتأسيسه لحكومة البشر: نزل هوانونغ وحاشيته على قمة جبل تايبيك (تايبيكسان) الجبل الأبيض العظيم تحت شجرة شيندان (سيندانسو) المقدسة، وأطلق على المكان اسم "شينسي" أي مدينة الآلهة. استقر حول الجبل ووضع قوانين أسس بها حكومة للبشر، وتولى أكثر من ثلاثمائة و ستين مهمة من شؤون البشر لتحسين حياتهم بما في ذلك مسؤولية الحبوب، والسيطرة على مدة الحياة والمرض والعقاب والخير والشر وعلّم البشر عدة مجالات منها الزراعة وتربية الحيوانات والطب والفنون والشفاء، فأحبّه الناس واتّبعوه.
تَوسُّل النمر والدب وهبة التحوّل إلى بشر: في أحد الأيام اقترب نمر ودب من هوانونغ وتوسّلا إليه أن يساعدهما في أن يصبِحا بشرًا (طالبين معروفًا بتحويلهما إلى شكل إنساني). صلى النمر والدب بحرارة إلى هوانونغ ظنّا أنه قادر بالتأكيد على تحويل الحيوانات إلى بشر كونه ابن ملك السماء، وقالا: «من فضلك اجعلنا بشرًا، نريد أن نكون حكماء وأناسًا طيبين نعيش لمساعدة الآخرين».
عندما سمع هوانونغ طلبهما أعجب بهما ووافق على مساعدتهما، فأعطاهما حفنة من عشبة النار وعشرين فصًا من الثوم ثم أوضح لهما التعليمات التي يجب أن يتبعاها: «إذا أكلتما فقط عشبة النار والثوم اللذين أعطيتكما إياهما لمدة مئة يوم في كهف مظلم و منعزل دون أن تريا ضوء الشمس خلال هذه الفترة، فسوف تحصلا على ما تريدان، وستكتسبان شكلًا بشريًا أما إذا رأيتما ضوء الشمس قبل مرور المئة يوم، فلن تصبحا بشرًا أبدًا».
ثم دخل الدب والنمر إلى الكهف كما أمر هوانونغ، وبدآ التدريب ليصبحا بشراً، فتناولا عشبة النار والثوم فقط دون أن ينظرا إلى ضوء الشمس، ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأ النمر يواجه صعوبات متزايدة، فشكا أولاً من مدى صعوبة البقاء في الكهف بسبب رائحته العفنة ثم لم يستطع مقاومة رغبته في التجول وأكل اللحوم والطعام اللذيذ خارج الكهف، ففقد صبره وغادر الكهف متخليًا عن التدريب.
بعد رحيل النمر تُرك الدب وحيدًا لكنه صبر وتمسك برغبته في أن يصبح بشريًا. تحمل الأيام الصعبة واستمر في اتباع التعليمات على عكس النمر الذي هرب، والذي كان يأتي بين حين وآخر لإزعاج الدب وتحبيطه قائلاً له: «لا تثق فيما قال، إذ إن الجميع كان يأكل عشبة النار والثوم هكذا، لأصبحت جميع الحيوانات بشرًا! هيا لنخرج إلى الغابة حيث تنتظرك خلية العسل بشوق!» لكن الدب رفض الإصغاء إليه وأصرّ على إكمال التعليمات.
بعد مرور فترة يُقال إنها ثلاث أو سبع أو واحد وعشرون أو سبعة وثلاثون أو حتى مئة يوم أو ليلة تحوّل الدب أخيرًا إلى إنسانٍ، تحوّل إلى امرأة جميلة سمّاها هوانونغ بـ "أونغنيو"، والتي تعني "المرأة الدب"، وخلال فترة تحوله شهد النمر صدفةً أن الدب قد تحوّل إلى إنسانة، فشعر بالأسف على نفسه لافتقاره صفة المثابرة والصبر.
تحوّل الدب: تحديدًا استيقظ الدب ذات يوم فلاحظ أن أشعة الشمس دخلت إلى الكهف، فحاول الابتعاد قدر المستطاع حتى لا تلمسه لكنها ظلت تتبعه وفجأة رفع كفوفه الأمامية ليغطي بها وجهه، فنظر إلى يديه التي تحولت إلى يدي إنسان، فغمرته السعادة والفرح.
أونغنيو والدعاء لتحقيق الأمومة: عامَل القرويون أونغنيو بلُطف إذ كانوا أصدقاء جيدين لها، لكنها كانت حزينة لأنها لم تجد من يرغب في الارتباط معها بعلاقة جادة. جلست تحت شجرة شندانسو (سيندانسو) المقدسة تدعو بحرارة لهوانونغ: «أريد حقًا أن أكون أمًا صالحة» استجاب هوانونغ لصلاتها بسرور وقال: «لقد وصلت صلاتك إلى السماء وجعلت الأرض تبكي سأحقق أُمنيتك».
تحوّل الإله هوانونغ إلى هيئة رجلٍ بشري لفترة مؤقّتة، واتّخذ أونغنيو زوجةً له، فعقد قرانه عليها بسرور، وسرعان ما حملت أونغنيو ثم أنجبت طفلًا سمّته "دانغن وانغيوم أو دانجون وانغ" الذي صار حين شبّ حاكمًا على الأرض وأولَ ملكٍ بشري في تاريخ الكوريين.
دانغن وانغيوم: الأب المؤسِّس وباني أوّل ممالك كوريا أسس دانغن وانغيوم مملكة كوجوسون القديمة (أول ممالك كوريا) التي يعود تاريخها من ٢٣٣٣ قبل الميلاد إلى ١١٢٢ قبل الميلاد، وحكمها لما يقارب الألفي عام، وأنشأ عاصمتها بعد خمسين عامًا من اعتلائه العرش في قلعة بيونغ يانغ ثم نقل العاصمة إلى جبل بايكال في أسدال قبل أن يعود إلى قلعة بيونغ يانغ، ويُقال إن الجنس الكوري بأكمله ينحدر من الأب الأكبر دانغن.
الرحيل العظيم: دانغن يرتقي إلى الخلود بعد أن حكم دانغن وانغيوم مملكة كوجوسون لمُدة ١٠٣٨ عامًا قرّر أن يتنحّى عن العرش، فذهب إلى جبل "بايغاك" أو "غنغهول" في أسدال، وهناك تقول الروايات إنه تحوّل إلى إلهٍ للجبل، وبلغ الخلود في سنٍّ يُقال إنه كان ١٩٠٨عامًا.
الدرس المُستفاد من الأسطورة: إذا أردت شيئًا فعليك أن تؤمن به إيمانًا عميقًا وتسعى إليه بمثابرة وصبر مهما طال الطريق أو كثرت التحديات فبالمثابرة والإيمان يتحوّل المستحيل إلى ممكن كما تحوّل الدب الصبور إلى إنسان بينما خسر النمر المتعجّل فرصته.
📌 ملحوظة مهمة: تجدر الإشارة إلى أن المواقع الجغرافية والتواريخ المرتبطة بحياة دانغن وانغيوم وتولّيه الحكم تختلف من مصدر إلى آخر حيث توجد سجلات وأساطير متباينة حول ذلك إلا أن الخطوط العامة للأسطورة من حيث الحبكة والرمزية تبقى متشابهة إلى حد كبير، والاختلافات تكمن غالبًا في التفاصيل.
معلومة تاريخية موازية للأسطورة:
١) هل دانغُن شخصية تاريخية أم أسطورة رمزية؟ رغم أن أسطورة دانغُن تُعد من الأساطير المؤسسة للهوية الكورية إلا أن صحتها محل جدل بين الباحثين إذ لا توجد دلائل تاريخية دامغة تثبت حدوثها حرفيًا، ومع ذلك فإن سلالة كوجوسون التي تنسب إليه تُعتبر واقعية تاريخيًا، ويُعتقد أنها كانت قائمة فعلًا. يفترض عدد من المؤرخين والمفسرين أن هذه الأسطورة قد تكون رمزية بنيت على وقائع تاريخية مغلّفة بالسرد الأسطوري فالعناصر الأساسية في القصة النمر، الدب، والشمس أو السماء ترمز إلى قبائل قديمة لكل منها معتقد خاص: فالنمر يرمز إلى قبيلة كانت تعبد النمور وتقدسها، و الدب يشير إلى قبيلة أخرى اتخذت من الدب رمزًا دينيًا أو طوطميًا أما السماء / الشمس فهي تمثل قبيلة شامانية كانت تؤمن بالسماء وتقدسها كقوة عُليا، ويُقال إنه حين أصبحت قبيلة السماء أكثر قوة بدأت بفرض نفوذها وتحقيق التحالفات، فاتحدت مع قبيلة الدببة بينما امتنعت قبيلة النمور عن الانضمام أو تم إقصاؤها، ومن هذا الاتحاد الرمزي بين السماء والدب وُلد دانغُن الذي كبر ليصبح زعيمًا شامانيًا ذا سلطة روحية وسياسية جامعًا بين الديانتين، وتشير بعض المصادر إلى أن هاتين القبيلتين بعد اتحادهما اختارتا دانغُن تحديدًا ليكون قائدًا لهما، ويُعتقد أن اسم "دانغُن" لم يكن بالضرورة اسم شخص بعينه بل لقبًا شامانيًا كان يُطلق على عدد من القادة الروحيين في تلك الحقبة.
٢) غايتشيونجيول: يوم نزول السماء وتأسيس الوطن: يُقال إن الثالث من شهر أكتوبر هو اليوم الذي نزل فيه الإله هوانونغ إلى الأرض، وهو ذاته اليوم الذي أسس فيه دانغُن مملكة غوجوسون أول مملكة كورية في التاريخ، ولهذه الرمزية العظيمة تحتفل كلٌّ من كوريا الشمالية والجنوبية بهذا اليوم سنويًا، وتُطلقان عليه اسم غايتشيونجيول أي "يوم انفتاح السماء"، ويُعرف كذلك بـ يوم التأسيس الوطني، ويُعدّ عطلة رسمية تستحضر الجذور الأسطورية للهوية الكورية.
بين الإيمان والأسطورة (دانغُن في الوعي الكوري): رغم مكانة دانغُن الرمزية في التراث الكوري فإن أغلب الكوريين الجنوبيين لا يؤمنون بوجوده كشخصية تاريخية فعلية، بل يحتفلون بذكرى تأسيس غوجوسون باعتبارها رمزًا للهوية الوطنية الجماعية والاعتزاز بالجذور على النقيض من ذلك يُكنّ الكوريون الشماليون تقديرًا عظيمًا لدانغُن، ويؤمنون بأنه شخصية حقيقية، بل ويقيمون له مراسم تذكارية وجنازية بكل ما يليق بمقام مؤسس الأمة، ويُجسدون حضوره في الوعي الجمعي بوصفه الأب الأول للعرق الكوري.
٣) ضريح دانغُن في بيونغ يانغ بين السياسة والأسطورة: في عام ١٩٩٣م أعلنت كوريا الشمالية أنها عثرت على رفات دانغُن (مؤسس الأمة الكورية الأسطوري) بالقرب من العاصمة بيونغ يانغ، ووفقًا للرواية الرسمية تم بناء ضريح خاص لتكريم الجثمان و تغليفه ثم أُقيم نصب تذكاري يُعرف اليوم بـ"ضريح دانغُن"، وبعد فترة من التجهيزات فُتح الضريح لعامة الشعب لزيارته والتأمل فيه كما سُمح للزوار الأجانب برؤيته لكن مقابل رسوم إضافية، ويُعد هذا الموقع اليوم أحد أبرز المعالم الرمزية في كوريا الشمالية، ويُستخدم لأغراض ثقافية وتاريخية وحتى سياسية لتعزيز الهوية القومية.
٤) الثوم في المطبخ الكوري نكهة لا تُستغنى عنه: تُعد كوريا من بين أكثر الدول في العالم استهلاكًا لفصوص الثوم سواء كان نيئًا أو مطبوخًا، فلا تكاد تخلو وجباتهم من لمسة الثوم المميزة باختصار الثوم ليس مجرد مكون في المطبخ الكوري، بل هو روح الوجبة المفضلة لدى الكوريين.
٥) شجرة أونغنيو الصنوبرية (تجسيد الروح المقدسة وطقوس التكريم): يُقال إن أونغنيو "المرأة الدب"، ظهرت في حلم لأحد قرويي قرية دونغهو دونغ طالبت فيه بزراعتها على الجبل الواقع خلف القرية حيث تجسدت مرة أخرى كشجرة صنوبر. استجاب القرويون لطلبها، وزرعوها في الموقع المحدد، وأقاموا تحتها ثلاث مذابح، و منذ ذلك الحين يُقام كل عام في ليلة رأس السنة الجديدة حسب التقويم القمري طقس تكريمي خاص لشجرة أونغنيو الصنوبرية المقدسة. حُظيت هذه الشجرة بحماية رسمية، وأُدرِيت بشكل جيد كجزء من التراث الثقافي والروحي للمنطقة، لتبقى رمزًا حيًا لتجسيد الروح وحماية الطبيعة.

٦) جبل تايبيك (بايكدو) رمز طبيعي في كوريا الشمالية: جبل تايبيك المعروف حاليًا باسم جبل بايكدو أو ميوهيانج يقع في كوريا الشمالية بالقرب من العاصمة بيونغ يانغ. يُعتبر هذا الجبل من المعالم الطبيعية الهامة في المنطقة ويحظى بمكانة بارزة في التاريخ و الثقافة الكورية.
📝بقلمي «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ، وَسِرَّهُ».