عشاق فالدارو: عناق لا يُفكّ

منذ وقتٍ ليس ببعيدٍ في عامِ ٢٠٠٧م قبلَ عيدِ الحبِّ مباشرةً نقبَ فريقٌ من علماءِ الآثارِ بقيادةِ عالمةِ الآثارِ إيلينا ماريا مينوتي في مقبرةِ سان جورجيو بالقربِ من قريةِ فالدارو في مانتوا (إيطاليا)، فتمَّ العثورُ هناكَ على زوجٍ من الهياكلِ العظميةِ البشريةِ (بقايا شخصين) من العصرِ الحجريِّ الحديثِ مدفونين سوياً في أحضانِ بعضِهما البعضِ في "حضنٍ أبديٍّ" مخفيين عن أعينِ العالمِ منذُ أكثرَ من ٦٠٠٠ سنةٍ، ولذلكَ تمَّ تسميتهما بعشاقِ فالدارو نسبةً إلى موقعِ اكتشافِهما، ومن حقيقةِ الحالةِ التي كانا فيها: يحدقانِ في عيونِ بعضِهما البعضِ وجهًا لوجهٍ وذراعيهما وأرجلهما متشابكةً كما لو أنهما يقولانِ لنا بأنهما سيبقيانِ معًا حتى الفناء.

 

تفاصيلُ الاكتشاف: وُجد الرجل على الجانب الأيسر، وبقرب عنقه رأسُ سهمٍ من حجر الصوان بينما وُجدت المرأة على الجانب الأيمن، وعلى فخذها نصلٌ حجريٌّ طويل، كما وُجدت سكاكين من الصوان تحت حوضها.

 

بيّنت الدراسات أن الهيكلين يعودان لشابٍّ وشابّة في العشرين من عمرهما إذ إن أسنانهما بدت قوية غير متآكلة مما يدل على حداثة سنّهما، وتُقدَّر أعمارهما بين ١٨ و ٢٠ عامًا على ألّا تتجاوز ٢٥ عامًا، وكان طولهما يقارب حوالي ١٥٧ - ١٥٨ سم أي حوالي خمسة أقدام وبوصتين.

 

البيئة الحافظة: تشيرُ الأبحاث إلى أنّ المنطقة التي دُفنا فيها كانت غنيّة بالممرات المائية من أنهارٍ ومستنقعات ما جعلها بيئةً مثاليةً للزراعة وصيد الأسماك، وأسهمت في الوقت نفسه في حفظ الهياكل العظمية بحالة شبه مثالية على مدى آلاف السنين، ويرجّح الباحثون أنّ مجتمعًا متقدّمًا نسبيًا كان يعيش في تلك البقعة خلال العصر الحجري الحديث.

لم يتم العثور على أي دليل يحدد هويتهما، ولا يمكن تحديد السبب الرئيسي وراء وفاتهما بشكل قاطع، وقد طرحت عدة فرضيات حول كيفية وفاتهما منها:

التكهّنات الأولية رجح المؤرخون أن الأسلحة ربما كانت سبب الوفاة، ومع ذلك خلال فحص العظام لم يتم العثور على أي دليل على وجود كسور أو كدمات (فكانت عظامهما سليمة إلى حد كبير)، ولا تظهر عليهما أي علامات على وجود صدمة شديدة تدل على أنهما ماتا بعنف لذا فإن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن أدوات الصوان دُفنت معهما على الأرجح كسلع جنائزية (ممتلكاتهما)، وبالتالي ربما ماتا لأسباب طبيعية.

ومن بعض التفسيرات (الفرضيات) الرومانسية:
أولها افترضوا أنه ربما قتل الرجل نفسه أولاً (انتحر)، فقررت المرأة أن تضحي بنفسها على طريقته لترافق روحه بعدما احتضنته لكي تذهب إلى العالم الآخر برفقته أو أنه ربما تم قتل الرجل، فقررت الفتاة اللحاق به (تبعته) أو ربما قتلا بعضهما البعض وتعانقا بعدها في القبر كما لو أنهما سيذهبان إلى الموت بعناق أبدي كما في قصة روميو وجولييت أو ربما كانا أميرًا وأميرة لأحد القبائل المحلية ماتا معًا في ليلة شديدة البرودة، فاحتضنا بعضهما ليُدفئ كل منهما الآخر أو أنهما انتحرا "تجرعا سمًا" بعدما رٌفض ارتباطهما من قبل أهليهما، فدفنهما شعبهما في تلك الهيئة تكريمًا لروحهما أو ليكونا عبرة للأجيال القادمة أو ربما تعرضا للقتل، وتم دفنهما بهذه الهيئة / الوضع مواجهة بعضهما البعض بعد موتهما.

 

تميّزُ الاكتشاف: بغض النظر عن التفسيرات الرومانسية والسؤال المحير الذي يتبادر إلى الذهن والذي ينص على "نظرية" مفادها عما إذا كان هذان الشخصان هما روميو و جولييت الحقيقيان، فإن هذا الاكتشاف يُعد واحدًا من أكثر الاكتشافات الأثرية رومانسية شهرة وروعة في التاريخ، وما هو أكثر إثارة للإعجاب هو أن هذا الدفن المزدوج يُعد المثال الوحيد الفريد من نوعه (النادر) من العصر الحجري الحديث بين ثلاثين قبرًا (مدافن فردية) تم التنقيب فيها حتى الآن في شمال إيطاليا، وبسبب ذلك سرعان ما أثار الضجة واستحوذ على اهتمام الأفراد في جميع أنحاء العالم.

 

كان التقييم الكامل لفحص العظام يستلزم التفريق بشكل فردي بين الهيكلين وإزالة كل عظم قطعةً قطعة، ولذا لم يتم فصلهما مطلقًا من أجل الدراسة حتى لا يتم المساس بموقعهما وهيئتهما الأصلية، فقام فريق التنقيب بحفر ورفع كتلة التربة المحيطة بهما، ووضعوهما برفق في صندوق خشبي أصفر ليتم إرساله إلى أحد المختبرات الأثرية، ولتظل ذكراهما حاضرة حتى النهاية تم وضعهما في متحف مانتوا الأثري الوطني رمزًا صامتًا لعناقٍ لم يفكّه الموت .

 

 *"هذا المقال تعليمي وتثقيفي بحت، ولا يحتوي على محتوى حساس أو غير لائق".

📝 بِقلمي (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا.. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال