اختيار المصير: حكاية آنِسه أم النمر؟ لفرانك ستوكتون

في زوايا الحكايات القديمة حيث تتلاقى مصائر البشر مع أقدارهم المحتومة تبرز قصة 'آنِسه أم النمر' كإحدى أعظم الألغاز التي واجهها الإنسان في رحلته بين الحب والعدالة. تطرح أمامنا معضلة فلسفية عميقة، وفي هذا المقال سنغوص في أعماق هذه القصة لنكشف عن معانيها الرمزية وتأثيراتها على فهمنا للعدالة والحب في عالم معقد.

نبذة: هي حكاية خيالية كلاسيكية قصيرة نُشرت لأول مرة عام ١٨٨٢م في مجلة القرن الأدبية الشهيرة للمؤلف الأمريكي "فرانك آر. ستوكتون" حول عواقب ومخاطر الاختيارات المحورية وتأثيرها على تعقيدات المشاعر الإنسانية.

ما عنوانها الحقيقي؟ تُعرف الحكاية بعدة عناوين منها: "آنِسه أم النمر؟"، أو "السيدة أم النمر؟"، أو "الفتاة أم النمر؟".

ولادة حكاية حيّرت القرّاء: روى فرانك آر. ستوكتون حكايته "آنِسه أم النمر؟" شفهيًا لأول مرة في حفل أدبي تحت عنوان "ساحة الملك" بهدف إثارة النقاش بين الحضور، وقد لاقت القصة تفاعلًا حماسيًا دفعه لتقديمها لاحقًا إلى مجلة "القرن" حيث تم قبولها وإعادة تسميتها من قبل المحرر إلى "الآنِسة أم النمر؟"، وبعد نشرها للعامة حققت الحكاية نجاحًا باهرًا وشعبية واسعة حتى أصبحت أشهر أعماله وأكثرها إثارةً للفكر.

١) مملكة الملك المستبد وعدالته الغريبة:
يُحكى أنه في زمنٍ غير معلوم كان هناك ملكٌ جبار يتمتّع بخيالاتٍ جامحة لا يحدّه فيها أحد، فما إن يخطر له أمر حتى يسعى إلى تحقيقه على الفور حتى وإن سبّبت قراراته الأنانية المعاناة للآخرين رغم أنه قد يبدو كريمًا أحيانًا إلا أنه حين تُواجهه عقبة صغيرة يتحوّل إلى شخصٍ أكثر "لُطفًا" لكنه لا يشعر بلذّته الكاملة إلا حين يتجسّد خياله الوحشي واقعًا (لا حبًّا في الخير، بل ليتلذّذ بتحقيق إرادته بارتياح تام). عُرف هذا الملك بأنه كائن شبه بربري يفضّل متعته الخاصة فوق كل شيء، ويُرضي خياله عبر نظام عدالة عجيب يُظهر فيه أن الحرية الحقيقية تكمن في الوحشية.

٢) العدالة لعبةُ مصير: بين البابين: يتمثّل نظام عدالة هذا الملك الغريب في وضع المتهم المشتبه به داخل ساحةٍ مكشوفة أمام المملكة بأكملها ثم يُخيَّر على نحوٍ أعمى بين بابين متماثلين مغلقين تمامًا دون أي دليل يمكنه أن يسترشد به، وكلُّ ما يُعرَف عن البابين هو أن خلف أحدهما فتاة قد تم اختيارها له خصيصًا، وسيُجبَر شاء ذلك أم أبى على الزواج منها فورًا في قلب الحلبة، ليُعلن بذلك براءته ويُطلق سراحه، ويُفترض أن يعيش معها في سعادة حتى لو كان متزوجًا من قبل، أو كانت له حبيبة يحبّها بصدق أما خلف الباب الآخر فينتظره نمرٌ شرسٌ جائع سيضطر إلى مواجهته في معركةٍ مميتة، أو يلتهمه الوحش على الفور أمام أنظار العامة، ليُعلَن عندها أنه مذنب.

*بديهيًّا فإن مصير المتَّهَم ومستقبله يتحددان عبر صُدفةٍ بحتة لا منطق فيها ولا دليل، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يُوجِّه تُهَم الظلم إلى نظام عدالة الملك فحتى إن اعترض أحدهم أو احتجّ كانت إجابة الملك الحاسمة: «ألم يكن الخيار بكل ما فيه في يَدِ المتَّهَم نفسه؟» أما أغلب العامة فمقتنعون بعدالة الملك، وقد اعتادوا حضور الساحة ليشهدوا هذه المحاكمات التي أصبحت في نظرهم مجرد تسلية.

٣) حبّ محكوم بالموت: كان لهذا الملك ابنة جميلة يعشقها أكثر من نفسه لما لها من روح حرة ومستبدة مماثلة له تمامًا (قُرة عينه التي تساويه في الاتجاه)، فشاءت الأقدار أن يصله خبر مفاجئ فقد علم أن ابنته الأميرة تُحب سرًا شابًا يتسم بالوسامة والشجاعة من حاشيته (رجال بلاطه)، وبما أن عيبه الوحيد كان أنه ليس من الدماء الملكية، بل من العامة (أدنى من الأميرة منزلة وجاهًا) غضب الملك ولم يتردد في أمر رجاله على الفور بالقبض على الشاب بتهمة دخوله في علاقة عاطفية مع ابنة الملك، فزجوه في السجن ليواجه العدالة أمام المملكة بأكملها في ساحة الملك حيث يُعاقب المجرمون عادة.

وبما أن هذه الجريمة كانت سابقة لعهدها إلى حد بعيد كونها لم تقع من قبل (لم يتجرأ أي فرد من العامة على أن يعشق ابنة ملك) اهتم جلالته بإجراءات المحكمة ببالغ الدقة طامحًا في إنزال أشد العقوبات، فأرسل على الفور رجالًا خصيصًا للبحث في مملكته عن أكثر النمور ضراوة وشراسة، وأجمل امرأة.

لم يهتم الملك بمشاعر ابنته أو الشاب كل ما كان يهمه هو أن يستمتع بنشوته الأخلاقية في مراقبة مجرى الأحداث، فمهما كانت نتيجة المحاكم  كان سيخلص من الشاب سواء أظهرت المحكمة إذا كان الشاب قد أجرم أم لا!.

٤) الأميرة: نار الغيرة أم لهب الفداء؟

أما الأميرة فمنذ اللحظة التي صدر فيها الحكم بمصير معشوقها لم تفكر ليلاً ونهارًا في شيء سوى هذا الحدث وكل من له صلة به، ونظرًا لمكانتها وقوتها ونفوذها استخدمت مكرها وذهبها لتتمكن من معرفة سر الأبواب بنفسها، فتمكنت من اكتشاف سر الأبواب وعرفت أيضًا من تكون المرأة الجميلة التي تقف خلف الباب (هويتها). 

*كانت المرأة خلف الباب واحدة من أجمل فتيات البلاط مما جعلها محط كراهية الأميرة كونها أيضًا قد أثارت غيرتها من قبل على معشوقها، فقد رأتها سابقًا تُلقي بنظرات إعجاب له، واشتبَهت أن عشيقها قد يكون يحب هذه الآنسة.

٥) لحظة القرار: إلى أي باب أشارت؟ عندما حل يوم المحاكمة الموعود احتشدت الحشود، ونظر الشاب إلى الأميرة طلبًا للإرشاد لأنه كان مدركًا أنها تعرف سر الأبواب (أي باب سيكون نجاته) نظر إليها بقلق سائلاً: «أيّهما اختار؟ أيّهما أسلك لأعيش؟» وكأن صوته يصرخ من مكانه: «افعلي شيئًا ليس هناك وقت أمامي للعيش!» فأشارت الأميرة إليه خلسة دون أن يشعر أحد، وأومأت بيديها نحو الباب الأيمن ثم تُنزل يديها بسرعةٍ خاطفة، ودون أدنى تردد مضى الشاب حيث أشارت وفتح الباب، وانتهت القصة عند ذلك دون أن يُكشف عن النتيجة. 

٦) سؤال بلا إجابة: من كان خلف الباب؟

          في الحقيقة كلما تأملنا السؤال كلما ازدادت الإجابة صعوبة، فهو يتطلب دراسة أعماق القلب الإنساني الذي يقودنا عبر متاهاتٍ عاطفيةٍ معقدة تُصعّب علينا إيجاد سبيل للخروج منها. قرار الأميرة لم يكن لحظة خاطفة واحدة، بل كان نتيجة حصيلة أيام وليالٍ طويلة من التفكير المؤلم! كم قاست من ليالٍ وحيدة! كم تقلبت روحها المتأججة بين نيران اليأس وحرائق الغيرة! كم مرة في طيات أحلامها أو يقظتها تخيلت مشهد حبيبها وهو يُلتهم على يد النمر! وكم من ليلة أخرى رأته مبتسمًا يثب فرحًا للقاء عروسته، فتصر على أسنانها غيظًا، وتقطع شعرها ندمًا! كم تلظت روحها! كم صرخت يائسة وغارقة؟ أليس من الأفضل له أن يموت فورًا ليكون في انتظارها في الآخرة حين تلحق به ولو بعد حين؟ ولكن كيف ستقوى على رؤية دمائه وهي تسيل؟ إن قرارها ليس بالأمر الذي يجوز الاستخفاف به، ولستُ أنا من يجرؤ على وضع نفسي في موضع من يستطيع الإجابة عنه لذلك سأترك السؤال في عُهدتِكم: ما الذي كان يُخبئه الباب الأيمن؟ هل هو النمر، أم الأنسة؟

يُخبرنا راوي الحكاية (المؤلف للقُراء) بضمير غائب أنه لا ينبغي النظر إلى مسألة قرارها باستخفاف، وليس من حقه كمؤلف أن يفرض نفسه الشخص الوحيد القادر على الإجابة عن هذا السؤال لذا ترك لنا جميعًا حرية القرار، لكي نقرر بأنفسنا: من الذي خرج من الباب المفتوح؟ هل هي الآنسة؟ أم تراه يكون النمر؟ ضع مصير الشاب في مخيلتك أيها القارئ، وتخيل ما قد يخبئه له القدر.

القرار المعلق: السيدة أم النمر؟ أثارت الحكاية غضب القراء وتسببت في جدل بين الإناث والرجال، وهم يحاولون تصور نهايتها:
الرجال يرون أن طبع المرأة غلاب، فهي تفضل رؤية معشوقها يُمزق على يد النمر المتوحش على أن يعيش مع امرأة غيرها أما النساء فيختلفن مع رأي الرجال قائلين إن طبع المرأة الحقيقي هو التضحية، وأنهن يفضلن أن يبقى معشوقهن على قيد الحياة حتى لو كان سيظل مع غيرهن.

*أدلى المؤلف فرانك بتعليق عندما تم سؤاله عن نهاية الحكاية قائلاً: «إذ قررت أيّهما الإجابة بين السيدة أم النمر، فستكتشف بنفسك أي نوع من الأشخاص أنت!».

علامة فارقة في مسيرة ستوكتون الأدبية بعدما لاقت الحكاية شهرة واسعة لم يكن ستوكتون يعلم عن نجاحها إذ كان قد سافر مع زوجته في خريف ١٨٨٢م ولم يعودا إلا في عام ١٨٨٤م، وعندها اكتشف أنها قد حققت نجاحًا كبيرًا، ومن بعد ذلك رفض ناشرو المجلات منهُ لسنوات عديدة أي حكاية لم تكن تضاهي مجد هذه الحكاية (السيدة أم النمر؟)، فلم يجد مخرجًا سوى إعادة إرسال أعماله الجديدة للناشرين تحت أسماء مستعارة، فقبلوا بها، وأتيحت الفرصة لأعماله لتشهد ضوء العالم. استمر في الكتابة بغزارة حتى توفي عام ١٩٠٢م في واشنطن بعد أن نشر العديد من الكتب التي لا يمكن عدها.

📝 بقلمي (سبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلأَ انْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال