مدينة بيرينغان: أسطورة فلبينية... أم حقيقة مريبة؟

لا يخلو عالمُنا من الأماكنِ الغامضة التي تُحيط بها الأسرار، وتُغذّيها الأساطير، فلا يدري أحدٌ على وجهِ اليقين: هل هي من نسيجِ الواقع أم من خيالِ الشعوب وسحرِ الموروث الشعبي؟ ومن بين تلك الأماكن التي تثير الحيرة تبرز مدينةُ بيرينغان المجهولة في أزقّة الفلبين لذلك في هذهِ المقالة سنغوصُ معًا بشكلٍ أعمق في تفاصيلها الغامضة لنُلقي نظرةً عليها عن كثب، ونستكشف أسرارها.

أين الموقع الغامض لمدينة بيرينغان؟

بيرينغان تعني حرفيًا "المكان المختفي" أو "المخفي / المجهول" أو "مكان الناس المفقودين أو مكان للبحث عن الأشخاص المفقودين" وأحيانًا تُترجم إلى "المدينة السوداء"، ويُعدّ الموقعُ الدقيقُ لمدينة بيرينغان موضعَ خلافٍ بين الروايات إذ يختلف من شخصٍ إلى آخر غير أنّ الرأيَ الغالب يُرجّح أنّها تقع في الفلبين في جزيرةِ سامار، وتحديدًا بين مدن غاندارا وتارانغنان وباغسانهان ،وعلى الرغم من ذلك فإنّ المدينة لا تظهر في أي خريطةٍ رسمية معروفة مما يزيد من كثافة الغموض الذي يُحيط بها، والأعجب من ذلك ما أوردته بعض التقارير من أنّ التصويرَ المتقدّم بالأقمارِ الصناعية، باستخدام الأشعةِ تحت الحمراء وفوق البنفسجية قد كشف من قبل شركة يابانية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عن منطقةٍ لامعةٍ في الموقع التقريبيّ المُفترض لمدينة بيرينغان رغم عدم رؤية هذه الأضواء على أرض الواقع.

من هم سكان بيرينغان؟ القصص المتداولة تروي أنّ سكان بيرينغان هم مخلوقات خارقة تُعرف باسم "الإنكانتوس" (أو "الإنغكانتوس")، ويُقال إنهم يشبهون البشر إلى حدٍّ كبير (يتّخذون هيئتهم) لكن الروايات تختلف حول طبيعتهم وأصلهم فمنها من يرى أنهم أرواح موتى مفقودين لم يُدفنوا كما ينبغي، فتاهت أرواحهم وتحولت إلى كائنات خارقة، ومنها من يصفهم بأنهم جنيات الطبيعة تسكن الأشجار والمياه وتحرس الأماكن المُقدّسة، وهناك من يعتقد أنهم كائناتٌ مسافرة من بُعدٍ آخر، وتقول بعض الروايات إنّ سكان المدينة يرتدون دائمًا الأسود سواء في ملابسهم أو زينتهم أو حتى أطعمتهم كأنّ هذا اللون جزء لا يتجزأ من طبيعتهم، ورغم اختلاف التفسيرات تتفق الحكايات الشعبية على أن هؤلاء السكان ينقسمون إلى فئاتٍ متعددة لكلٍّ منها خصائصها الفريدة، ومن أشهر أنواع الإنغكانتوس المرتبطة بأسطورة بيرينغان:

١) البانوانون: وهم النخبة الحاكمة من الإنكانتوس، ويُشتهرون بطول القامة، وجمالٍ أخّاذ، والخلود لكنهم يفتقرون إلى المشاعر، ولا يُبالون بمعاناة البشر.

تُوصَف ملامحهم بأنها خالية من العيوب، ببشرةٍ شاحبةٍ على نحوٍ لافت، وعيونٍ آسرة، ووجوهٍ وسيمة إلى حدٍّ مقلق، ومن السمات الفريدة التي يُشار بها إلى سكّان بيرينغان عمومًا، والبانوانون على وجه الخصوص غياب "النثرة" وهو الأخدود الصغير بين الأنف والشفة العليا.

٢) الدالاكيتنون: يُوصفون بأنهم طوال القامة، وأنيقو الهيئة، وذوو بشرة شاحبة وشعر داكن كثيف، وترتبط هذه الكائنات الخارقة بأشجار الباليتة (الدالاكيت). تُشتهر بخداع البشر والتلاعب بعقولهم، ويُقال إنهم يستخدمون سحرهم الآسر لجذب البشر لا سيما النساء إلى عوالمهم المجهولة.

٣) التاماوو: كائنات تشبه الجان بشرتهم شاحبة للغاية، وحضورهم ساحر يأسر الأنظار، وغالبًا ما يقيمون بالقرب من مصادر المياه، ويُعرف عنهم اختطاف الفتيات إذ يغرينهن بجمالهم ثم يُوقعنهن في فخ الزواج أو تأسرهن في مناطقهم الخفية.

٤) الماهوماني والتاهامالينغ: يُعرفان بجانبهما الطيّب، ويرتبطان بالحظ والحماية وقوى الطبيعة، ويُقال إنهما يمنحان الثراء والبركة، ولا يُؤذيان من يُظهر لهما الاحترام.

يُصوَّر الماهوماني كحارسٍ ذكَر وسيم في حين تُجسَّد التاهامالينغ (أو التامالانهيغ) كنظيرته الأنثوية، وغالبًا ما تكون أكثر حرصًا على حماية مملكتهما لكنّهما قد تتحولان إلى كائناتٍ انتقامية إذا ما اختُلَّ نظام مملكتهما أو تعرّضت أراضيهما للإساءة.

٥) أبين: كائن روحي حارس يُعتقد أنه يسكن الطبيعة، ويُقال إنه يرشد ويحمي أفرادًا معينين خصوصًا أولئك الذين يمارسون صنع التعويذات أو يصطادون المخلوقات الخارقة، ويُؤمن بأن غضبه يصيب الإنسان بالمرض أو النحس لذلك تُقام له طقوس تكريمية في بعض المناطق قبل دخول الغابات أو بناء المنازل. 

🏙️ وصف المدينة: مدينةٌ خفيّة مبهرةٌ في تفاصيلها شاهقةُ البنيان كأنّها كاتدرائياتٌ تمتدّ إلى عنان السماء. تسير فيها قطاراتٌ فائقةُ السرعة، وتتلألأ شوارعها بأضواءٍ ساحرةٍ ذهبية، وأكثرُ ما يُثير الدهشة فيها هو حداثتها المفرطة، وتقدّمها التكنولوجيّ الذي يفوق ما هو متاحٌ في عالمنا المعاصر.

يصفها من أُتيح لهم رؤيتُها بأنّها مدينةٌ مذهلةٌ في روعتها لا نظيرَ لعمارتها، وثرواتها تفوق إدراكَ الواقع، بل إنّ جمالها وسحرها لا يُضاهيه ما في نيويورك أو هونغ كونغ أو باريس، وأعجب ما قيل عنها أنّها مدينةٌ بلا ظلّ، فلا تُسقط جدرانها ظلًا، ولا تُلقي أعمدتها الطويلة خطوطًا رمادية على الأرض، وسكانها أنفسهم، وإن بدوا كالبشر يمشون دون أن يُخلّفوا أثرًا مظلمًا خلفهم كأنهم لا يخضعون لقوانين الضوء والكتلة.

👁️ من يرى مدينة بيرينغان؟ المدينةٌ خفيّة غارقةٌ في سحرٍ لا يُدركه البصر، فلا تظهر لأحدٍ بعينه المُجرّدة إلا لمن اختير أن يراها (لمن دُعي إليها)، أو لمن تاه عن الطريق دون قصد (لأولئك الذين ضلّوا السبيل في طرقٍ غامضة)، ويُقال إنّها لا تُرى إلا في الليل.

لا يُشترط أن تكون طاهرَ القلب أو شريرَ النيّة، فالقوى الخارقة للطبيعة تُفسد كلَّ من يُعكّر صفوها لكن في رواياتٍ أخرى يُقال إنّ الطريق إليها لا يُفتح إلا لأصحاب القلوب النقيّة والشجاعة النادرة، وكأنّها تختار ضحاياها... أو محظوظيها.

ما مصير من يذهب إليها؟ من وقع في شركها الخفي؟ الوقت داخلها لا يُشبه الوقت في العالم الخارجي، فدقائق هناك قد تمرّ كسنوات هنا والذين يدخلون إلى بيرينغان لا يعودون أبدًا إلى الأرض المعتادة، وإن عادوا فإنهم لا يكونون كما كانوا إذ يعودون وقد فقدوا ذاكرتهم أو أصيبوا بالجنون أو أصبحوا ضحيةً للتملّك الشيطاني أو يعانون من اضطراباتٍ نفسيّةً غامضة.

القصص الشعبية والروايات التي تُروى عن المدينة: تختلف الحكايات والروايات التي تناقلها الناس عن هذه المدينة الغامضة لكنّها تشترك جميعًا في عنصرٍ مشترك وهو الضياع والاختفاء المفاجئ دون تفسير عقلاني، ومن أبرز هذه الروايات ما يلي:

١) الطُرق التي لا نهاية لها: يروي بعض البحّارة وسائقي الشاحنات أن مرورهم قرب جزيرة سامار في أوقات متأخرة من الليل قد يؤدي بهم إلى الظهور في مدينة لا يعرفون كيف دخلوها أصلًا.

تقول الأسطورة إنّ الإنغكانتو عند محاولتهم زيارة المدن المجاورة يؤثرون على عقل السائقين فيُوهمونهم بأنّهم يسلكون طريقهم المعتاد بينما هم في الحقيقة قد انحرفوا عن مسارهم ليدخلوا نطاق بيرينغان دون أن يدركوا ذلك، وعندما يستعيد السائق السيطرة على نفسه يجد نفسه تائهًا يدور بلا نهاية في دائرة مغلقة.

٢) الصياد الذي يصطاد في السماء: في أوقات شحّ الأسماك يجد الصيادين أنفسهم فجأة في بحرٍ هادئٍ وغنيّ بالحياة البحرية لكن حين يحاولون الصيد لا يدركون أنّهم في الحقيقة لا يصطادون من البحر، بل يسبحون فوق سماء مدينة بيرينغان. 

٣) الصفقات المشؤومة: كثيرة هي القصص التي تتحدث عن رجال أعمالٍ اختفوا دون أثر بعد تلقّيهم عروضًا استثمارية مغرية من "شركاء" مجهولين.

تقول الروايات إنّ كائنات من بيرينغان تظهر في هيئة بشر أنيقين، وتغري الضحية بعقود لا تُرفض، وبمجرّد إتمام الاتفاق يختفي إلى الأبد. 

٤) شحناتٌ إلى لا مكان: رُويت قصصٌ غريبة عن شاحنات أُرسلت لتسليم مواد بناء إلى عناوين مجهولة باسم "بيرينغان"، وبعد التسليم تختفي الحمولات بلا أثر.

في إحدى الحوادث طلبت جهة غامضة شحنة من الأخشاب لتُسلم في طريق ترابي، ونُفّذ الطلب حرفيًا لكن في صباح اليوم التالي كانت الأخشاب قد اختفت دون أي أثر، ولم يبقَ دليل على وجودها سوى المال المدفوع مسبقًا، والأغرب من ذلك يكتشف أن من دفع ثمن الشحنة هم أشخاص قد توفوا منذ زمن بعيد، ويُحكى أنه في ستينيات القرن الماضي وصلت شحنة معدات بناء باهظة الثمن من الولايات المتحدة إلى "ميناء تاكلوبان" أقرب ميناء رئيسي. كانت الشحنة موجهة إلى مدينة بيرينغان مما أثار حيرة مسؤولي الميناء لعدم وجود مكان بهذا الاسم، فتم حفظ المعدات تحت الحراسة، ولم يُطالب بها أحد على الإطلاق.

٥) الأشخاص المفقودين: تُحذّر بعض الروايات النساء الجميلات والرجال من المرور في المناطق القريبة من بيرينغان إذ يُقال إنّ سكّان المدينة إذا أُعجبوا بأحدهم قد يُغرونهم بالكنوز أو الجمال أو يختطفونهم بالقوة ليُصبحوا زوجات أو أزواجًا لأحد سكان ذلك العالم الخفي أو أسرى لا يُرَوْن مجددًا، ووفقًا لبعض الناجين الذين دُعوا إلى المدينة الجميلة وعُرضت عليهم ثروة، فإنّهم عادوا في النهاية إلى عالم البشر بعد هروبهم أو بعد تلقيهم دعوات من عائلاتهم.

٦) الطريق مغلقة: يُحكى أن كان هناك امرأتان على جانب الطريق حدّدت كلتاهما وجهةً بعيدةً عن الطريق الرئيسي، وعرضتا على السائق أجرةً أعلى بثلاثة أضعاف، فوافق السائق وأخذهما إلى هناك، وبعد أن ترجّلتا حاول السائق العودة إلى الطريق السريع لكنه أدرك أن الطريق قد أُغلق خلفه تاركًا إياه وسط ما بدا وكأنه حقل مُغطّى بالأعشاب، فلم يكن أمامه خيار سوى قضاء الليلة في سيارته، وفي اليوم التالي استيقظ ليجد الحافلة متوقفة على قمة جبل بزاويةٍ شديدة الانحدار ما استلزم استخدام معداتٍ ثقيلةٍ لإنزالها. 

يُحكى أن شابان كانا يركبان دراجة نارية على طريق مظلم ووحيد، توقعا رحلة هادئة لكن عند أحد المنعطفات المفاجئة انقلب المشهد إذ أحاط بهما صوت ضجيج مرور وأبواق سيارات وصراخ رغم عزلة الطريق. تملّكهما الخوف، ولكنهما استمرا حتى عاد الهدوء المفاجئ، وصار الصمت قوياً بشكل مدهش مما زاد من دهشتهما وصدمة ما حدث.

٧) حبٌّ مسحور: تُروى قصصٌ عديدة عن وقوع بعض سكان بيرينغان في حبّ البشر، فعندما يقع أحدهم في غرام إنسانٍ فانٍ يُصاب ذلك الشخص عادةً بمرضٍ غامضٍ لا علاج له بالطب الحديث أو يُصاب بالمسِّ وأحيانًا يبدو عليه الجنون وكأنه انفصل عن وعيه، فيبدأ بقول أشياء غريبة أو يتحدث إلى أشخاصٍ غير مرئيين، وأحيانًا يفارق الحياة دون سبب واضح، ويُعتقد حينها أنّ روحه قد انتقلت إلى بيرينغان حيث يفقدُ تدريجيًّا ذاته مما يجعله مواطنًا حقيقيًّا في موطنه الجديد.

تتردّد شائعات أخرى أكثر غرابة تُفيد بأنّ الجسد الذي يُعثَر عليه بعد الاختفاء ليس الجسد الحقيقي للمختطَف، بل هو جذع شجرة موز استُخدم بدلًا عنه، وقد أُلقِيَت عليه تعويذة لتجعله يبدو بشريًا.

٨) أسطورة كارولينا: من أشهر الأساطير المتداولة عن المدينة هي قصة فتاة تُدعى كارولينا التي سافرت إلى سامار برفقة صديقتين لقضاء عطلة قصيرة لكنّ كارولينا لم تعد أبدًا إلى مانيلا بل بعثت برسالة إلى عائلتها تُخبرهم فيها بسعادتها واستقرارها في مكانٍ جميل قائلةً إنها اختارت البقاء هناك، وما حيّر والديها ليس فقط قرارها المفاجئ بل العنوان المدوَّن على الرسالة وهو مدينة بيرينغان، ومنذ ذلك الحين اختفت كل آثارها، ولم تُرَ مجددًا، ويعتقد بعض السكان المحليين أنّ كارولينا لم تختفِ فحسب، بل أصبحت أميرة بيرينغان. 

٩) جيسا ورؤيا المدينة الخفية: كانت "جيسا" شابةً حالمة نشأت على حكايات جدّتها عن مدينة بيرينغان الساحرة، فتعلّق قلبها بها، وسكنها الفضول لاكتشاف حقيقتها.

ذات مساءٍ حملت مصباحها وانطلقت إلى الغابة مدفوعةً بشجاعةٍ صامتة. هناك وسط الظلال والأصوات الغامضة بدا لها أن الزمان قد انثنى، وانكشفت أمامها مدينةٌ متلألئة أشبه بالسراب تضج بالحياة والأضواء والمخلوقات العجيبة "الإنغكانتوس" ينسلون بهدوءٍ بين الأزقّة رغم سحر المشهد شعرت جيسا بأنّ الاقتراب أكثر قد يُكلّفها نفسها، فبيرينغان ليست ككلّ المدن، بل بوابة إلى عالمٍ آخر لا يخضع لقوانين البشر، ومع بزوغ الفجر غادرت جيسا المكان حاملةً ذكرى لن تُنسى، وبدأت تروي قصّتها لمن حولها، لتغدو حكايتها جزءًا من تراث الأسطورة، وشعلةً تُضيء خيال من يؤمنون بما وراء الواقع.

١٠) الانجذاب الغامض إلى المدينة: تختلف الروايات البصرية التي رُويت عن الناجين إلا أن هناك تشابهًا واضحًا بينها جميعًا، وهو أنهم تم استدراجهم وهم في حالة تشبه الغيبوبة أو التشوّش أو تحت تأثير عناصر شريرة وأرواح غامضة تسيطر على عقولهم أو حالة تشبه الشعور بالمسّ كما لو أن إرادتهم قد انتُزعت منهم.

تُروى الأساطير أن من يقترب من حدود تلك المدينة، ولو كان ذلك محض صدفة، فإنه يفقد السيطرة على عقله وأفكاره إذ يُعتقد أن الأرواح التي تسكنها تمتلك القدرة على التسلل إلى العقول والتلاعب بها.

تحذير: كيف تحمي نفسك إن دخلتَ بيرينغان؟ سواء دخلتَ المدينة بالصدفة أو أُجبرت على ذلك، تذكّر هذا أولًا: لا تثق بأحد، وحاول الفرار فورًا إن وجدتَ نفسك عند أبوابها، واحذر… احذر أن تتناول طعامًا أو شرابًا أو تقبل هدية مهما بدت بريئة فبمجرّد أن تفعل لن تتمكن من المغادرة أبدًا.

في الأسطورة يُقدَّم للزائر طبق من حبوب الأرز الأسود، ويُقال إن من يتناوله يُصبح أسيرًا أبديًا للمدينة، ويفقد القدرة على العودة إلى عالم البشر تحديدًا حينها تُحبَس روحه هناك إلى الأبد، ويُترك جسده المادي في عالمنا ممددًا كما لو كان في غيبوبة لا تنتهي… أو في حالٍ أسوأ أما إن قاوم الإغراءات، وتمسّك بوعيه، فقد يُهيَّأ له طريقٌ للهروب، وإن حالفه الحظ سيستيقظ ذات يوم في عالمه بعد أيام أو شهور أو حتى سنوات… ولا يحمل معه سوى ذكرى ضبابية عن مدينةٍ لا يصدق أحدٌ أنها وُجدت حقًا.

تقول الأساطير الفلبينية إن من يضلّ طريقه في الغابات المحيطة بتلك المدينة عليه أن يقلب قميصه رأسًا على عقب، فقد يكون عالقًا في وهمٍ نسجته روح شريرة تعبث بعقله وتُضلّل بصره، ويُوصي كبار السنّ في القرى إذا ما راودك الشكّ في أحدهم أن تطلب منه أن ينفخ بقوةٍ من أنفه فإن عجز، فربما يكون "إنغكانتوس" متنكّرًا بهيئة بشر. 

بيرينغان (اسمٌ يُخيف من نطقَه لذا لا يحبّون أن ذكره): إذا سألتَ أحد السكان المحليين عن بيرينغان، فسيُفضّل أن تُخفض صوتك أو تتحدث عنها همسًا وإن أمكن لا تتحدث عنها أبدًا فهم لا يرونها مجرّد مدينة أسطورية، بل كيانًا حيًّا له آذان تُصغي من خلف الأشجار، وأعينٌ تراقب من زوايا الظلال، ويؤمن بعضهم أنّ سكانها قادرون على إخفاء أنفسهم عن أعين البشر، وأنّهم يسمعون كل ما يُقال عنهم حتى من خلف حجاب العالَم المرئي لذلك يخشى كثيرون أن يتفوّهوا باسمها ليس خوفًا من السخرية، بل خوفًا من الانتقام لأنّ الحكماء يقولون: "المدينة محرمة على اللسان، فلا تلفظها فهي تنتقم ممن يناديها" . 

كيف يُقال أنّ الناس يصلون إليها؟ يُعتقد أنّ هناك سبع بوابات أو نقاط عبور خفية تؤدي إلى مدينة بيرينغان تنتشر تحت جذور أشجارٍ عتيقة في الجهات الغربية والشرقية والشمالية من جزيرة سامار، ووفقًا لما يرويه القرويون تُستخدم الأشجار القديمة كـ"ممرات" أو "بوابات" تؤدي إلى عالم الإنغكانتوس، ومن أشهر هذه الأشجار التي تختبئ عند جذورها بوابة خفية هي شجرةٌ ضخمة داخل حرم جامعة ولاية شمال غرب سامار، وشجرتان من البلوط الشامخ تقعان قرب شلالات باغسانغهان.

النظريات وراء مدينة بيرينغان: تحيط بمدينة بيرينغان العديد من النظريات التي تحاول تفسير وجودها الغامض منها ما يذهب إلى أنّ المدينة ليست سوى قاعدة حكومية سرّية أو منشأة عسكرية أجنبية مخفية عن أعين العامة، فيما يرى آخرون أن بيرينغان قد تكون في الحقيقة منشأة علمية بحثية أو دفاعية تحت الأرض تُجرى فيها تجارب على السفر بين الأبعاد أو التحكم في الوعي البشري، ويعتقد أصحاب هذه الفرضية أن الروايات المتداولة عن أشخاص اختفوا ثم عادوا بعد سنوات بتجارب ضبابية وذكريات مشوشة ما هي إلا آثار لتلك التجارب الخارقة، والتي جرى التستر عليها بنشر قصص خرافية وأساطير شعبية لصرف الانتباه أما أغرب النظريات فتربط المدينة بكائنات فضائية، وتزعم أنّ بيرينغان ليست مدينة أرضية على الإطلاق، بل مستعمرة أنشأها زائرون من عوالم بعيدة، ويُقال إنّ هذا هو ما يفسّر تقدّمها التكنولوجي الفائق، وظواهرها غير المنطقية مثل اختفاء الظلال، وعدم خضوعها لقوانين الفيزياء المعتادة أما في التفسير النفسي فيقترح بعض علماء الأنثروبولوجيا أن بيرينغان قد تكون تعبيرًا جماعيًّا عن مخاوف سكان الجزر من الفقد، والعزلة، والضياع في طبيعةٍ لا ترحم، ويُرجّح أن الأسطورة وُلدت نتيجة تكرار حوادث الاختفاء الحقيقية لأشخاصٍ ضلّوا طريقهم في الغابات أو جرفتهم الفيضانات أو ابتلعتهم الكوارث الطبيعية في المقابل يرى علماء آخرون أنّ هذه الأسطورة قد تُعبّر عن رغبة دفينة في التقدّم والنهضة داخل جزيرة سامار أي أنّها حلمٌ جماعي بالتطوّر والراحة تجسّد في اللاوعي الشعبي على هيئة مدينة مثالية تُقابل الواقع القاسي الذي يعيشونه.

وأخيرًا ما بين الأسطورة والواقع تبقى مدينة بيرينغان حيّةً في الذاكرة تُلهب خيال المستكشفين في كل زاويةٍ من العالم، وتُشعل في قلوبهم أسئلةً لا تنطفئ: من هم؟ وأين هم؟ وهل كانت المدينة حقًّا هناك… أم فينا؟

📝بقلمي (اللهم يا من أحطتَ علمًا بكل شيء، وأنتَ العليم الخبير نحـن عبيدك الضعفاء بين يديك، فاحمِنا بلطفك من كل أمرٍ غريبٍ لا نفقه جوهره، ومن كل ظنٍ لا نعلم حقيقته، ومن كل فتنةٍ تتوارى في ثوب الغرابة والريبة. اللهم اجعل لنا في دروبنا نورًا، وفي قلوبنا بصيرة، وفي أقدارنا خيرًا، واصرف عنا كلَّ ما يُدهشنا بلا رحمة، ويطرق أبوابنا بلا دعوة، ويُثقل أرواحنا بلا سبب).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال