كوكبة كاسيوبيا تلك التشكيلة النجمية التي تضيء السماء بأضوائها المتألقة تحمل في طياتها أسطورة قديمة لملكة جميلة وطيشٍ قادها إلى السماء. في هذا المقال نغوص في تفاصيل أسطورة كاسيوبيا محاولين فك رموزها وتفسير معانيها بين النجوم.
ما
هي الكوكبة النجمية؟ هي مجموعة من النجوم التي تشكل معًا شكلًا معينًا في
السماء، وهو شكل تخيلي يعتمد على كيفية رصدها من الأرض. غالبًا ما تُسمى
الكوكبات بناءً على شخصيات أسطورية أو حيوانات أو حتى أشياء أخرى.
ما هي كوكبة كاسيوبيا؟ هي كوكبة كبيرة تقع في نصف الكرة الشمالي، ويمكن رؤيتها طوال العام بفضل شكلها المميز والواضح. تتكون الكوكبة من خمسة نجوم لامعة تخلق علامة نجمية تُشبه حرفي "W" أو "M"، وهذه النجوم هي: إبسيلون، روشبه (دلتا)، جاما، ألفا (الصدر)، وكف الخضيب (بيتا).
*تعد كوكبة كاسيوبيا واحدة من الكوكبات الـ٤٨ التي قام الفلكي اليوناني بطليموس بتسجيلها في القرن الثاني، واليوم تُعد كاسيوبيا واحدة من الكوكبات الـ٨٨ الحديثة التي يمكن رؤيتها بسهولة في السماء.
بماذا تُعرف كوكبة كاسيوبيا؟ تُعرف بين العلماء بـ "نجمة الكرسي"، وفي الثلاثينيات من القرن الماضي أعطى الاتحاد الفلكي الدولي هذه الكوكبة الاسم الرسمي "الملكة كاسيوبيا".
إذًا، ما هي أسطورة الملكة كاسيوبيا؟ ولماذا تُعرف بـ "ذات الكرسي"؟
في مملكة إثيوبيا أنجبت الملكة كاسيوبيا من زوجها الملك سيفوس فتاة تُدعى أندروميدا التي ورثت جمال والدتها الفائق.
ذات يوم بينما كانت كاسيوبيا تُسرح خُصل شعرها الطويل تجرأت وتباهت لدرجة أنها ادعت أن جمالها وجمال ابنتها لا يُضاهى، وأنه يفوق جمال حوريات البحر (بنات نيريوس) اللواتي يُعرفن بـ "النيريد".
*النيريد: هن حوريات البحر الجميلات عددهن يتراوح بين ال٥٠ وال١٠٠ بالمجموع، ويقال إنهن يقدمن المساعدة للبحارة في رحلاتهم خصوصًا عندما يواجهون عواصف شديدة أو عندما يضلون الطريق. وُجدت النيريد عادةً بين أمواج البحر الأبيض المتوسط أو قرب الصخور، وكان لهن قصر ذهبي في أعماق بحر إيجه حيث يعشن مع والدهن نيريوس ووالدتهن دوريس.
*والدهن نيريوس: يُعتبر أحد آلهة المياه ويُلقب بـ "رجل البحر العجوز" أو "رجل البحر الحكيم الذي لا يُخطئ"، ومن قدراته العجيبة يستطيع التنبؤ بالمستقبل وتغيير شكله حسب رغبته، وغالبًا ما يظهر في صورة رجل مسن يمتلك ذيلًا يشبه ذيل السمكة بدلًا من الأرجل، وشعره محاط بالأعشاب البحرية.
وكما هو الحال دائمًا لا يمكن لمثل هذه الغطرسة من البشر أن تمر دون عقاب. وصل الخبر إلى نيريوس وبناته حوريات النيريد عن ادعاءاتها، فغضب نيريوس ولم يسكت عن هذه الإهانة الموجهة من بشرية مهما كان شأنها! سارع إلى بوسيدون (إله البحر) طالبًا مساعدته لأخذ الثأر، ليعيد له اعتباره واعتبار بناته من جراء جرأتها في مقارنة نفسها بهن، فيوافق بوسيدون على معاقبة كاسيوبيا وابنتها، ويقال أحيانًا أن من طلب الثأر من بوسيدون هن نيريد، فناشدته أختهن أمفيتريت (زوجة بوسيدون) ليأخذ بثأرهن، فوافق مُلزمًا بالانتقام.
ردًا على غطرستها استجاب بوسيدون لطلبهن وقرر أن يُلقّن كاسيوبيا وابنتها درسًا قاسيًا، وفي بعض الروايات قيل إنه أرسل فيضانًا غمر مملكة إثيوبيا بأكملها بينما في روايات أخرى يُقال إنه أرسل الوحش قيطس (كيتوس)، وهو وحش بحري مخيف يشبه الحوت وله شكل أفعى، ليدمر ساحل إثيوبيا ويخرب البلاد.
وفي تلك الأثناء في حالة من اليأس طلب كل من كاسيوبيا وزوجها سيفيوس النصيحة من الكاهن أوركال لإنقاذ مملكتهما من الدمار، فأخبرهما الكاهن أنهما يجب أن يضحيّا بابنتهما أندروميدا للوحش لتهدئة غضب بوسيدون، فوافقا على مضض (مكرهين ومتألمين) على تقييد أندروميدا بالسلاسل على صخرة بالقرب من البحر ليلتهمها الوحش قيطس، ولذلك تُعرف أندروميدا أحيانًا بالمرأة المسلسلة، وفي بعض الروايات يُقال إن بوسيدون هو من طلب التضحية بها كقربان، وإلا فلن يبتعد الوحش قيطس عن مكانه.
قبل أن يهاجم الوحش قيطس أندروميدا بلحظات يظهر البطل فرساوس (بيرسيوس) الذي كان يمر على ساحل مملكة إثيوبيا بعد أن قتل ميدوسا، فيلاحظها، ويُدهش بجمالها الفاتن، فيقع في حبها من النظرة الأولى. تُخبره أندروميدا بما يحدث لها، فيقرر مساعدتها، وفي بعض الروايات يُقال إنه أنقذها ثم طلب يدها للزواج، وفي روايات أخرى يُقال إنه عرض على والديها أن ينقذها بشرط أن يتزوجها، فوافقا على مضض.
كيف أنقذها؟ استخدم فرساوس "الصنادل السحرية" التي تسمح له بالطيران (صنادل مجنحة)، ثم قام بذبح الوحش قيطس باستخدام السيف السحري الذي أهداه له هيرميس، وفي بعض الروايات يُقال إنه استخدم في مهمته لإنقاذ أندروميدا رأس مادوسا التي كان من ينظر إليها يتحول إلى حجر، وبمجرد أن تم إنقاذ أندروميدا حاول والداها التراجع عن وعدهما معه لأنهما كانا قد وافقا مسبقًا على زواجها من شقيق والدها (عمها فينوس)، ومع ذلك أصر فرساوس على الزواج منها.
في حفل الزواج تحولت المناسبة السعيدة إلى مشهد دموي بعد ظهور فينوس مع مجموعة من أتباعه حيث ادعى أنه الشخص الوحيد الذي يحق له الزواج من أندروميدا. نشب شجار بينه وبين فرساوس انتهى بقيام فرساوس برفع رأس مادوسا، وفي نظرة واحدة منها تحول جميع الحضور إلى حجارة (فينوس وأتباعه)، وللأسف لقي الملك والملكة نهايتهما أيضًا لأنهما لم يبتعدا عن رأس مادوسا في الوقت المناسب، فتحولا إلى حجر، ثم تزوج فرساوس أندروميدا وأخذها معه إلى مملكته حيث حكما معًا.
النهاية الفعلية تبدأ الآن: رغم موتها لم يستطع بوسيدون السماح لكاسيوبيا بالهروب من العقاب، ولكي يذلها للمرة الأخيرة نفاها إلى عالم النجوم حيث وضعها في وضعية مقلوبة الرأس على العرش مُقيدةً على كرسي. هذا الوضع الإذلالي كان يُجبرها على التشبث بالعرش لتجنب السقوط، وحكم عليها أن تجوب الفضاء الأبدي تتعذب ككويكب مقلوب الرأس طوال الأبدية، ولهذا السبب تُعرف كاسيوبيا بكوكبة "ذات الكرسي".
هناك العديد من الصور التي تُظهر كوكبة "ذات الكرسي"، ولكن أشهرها تُصوّر كاسيوبيا جالسة على عرشها، وهي تمشط شعرها مما يرمز إلى عنايتها بنفسها بشكل مبالغ فيه في إشارة إلى غرورها.
أنتجت هذه الأسطورة ستة كويكبات: كاسيوبيا بالقرب منها زوجها سيفوس، ثم فرساوس مع بيغاسوس (صندله المجنح) وزوجته أندروميدا (التي تمتلك مجرى خاصًا بها)، وأخيرًا الوحش سيتوس رغم أنه لم يكن قريبًا منهم.
معلومات:
١) تختلف التصورات ورؤية النجوم وفقًا لخيال المُشاهد: من المعروف أن التصورات الخاصة بالكوكبات يمكن أن تختلف بشكل كبير بين المجتمعات والثقافات على سبيل المثال لم يرَ البعض كوكبة كاسيوبيا على أنها تمثل الملكة، بل تصورها بعض المجتمعات كجزء من كوكبة كبيرة تشبه الجمل ذي سنامين أو كخنزير البحر أو كسلحفاة سوداء أو كنمر أبيض أو كثلاثة أطفال أو كقرن الأيل، وهناك أيضًا من تصورها كمجموعة من الشخصيات الدينية مثل والدة النبي سليمان أو القاضية ديبورا أو القديسة مريم المجدلية. هذه الاختلافات في الرؤية تعكس تنوع التصورات الفلكية التي قد تتأثر بالثقافة والفهم المحلي.
٢) مُصطلح إثيوبيا: كان مصطلح "إثيوبيا" في العصور القديمة يشير إلى ظهور الناس في مملكة كوش، وهي منطقة كانت تقع بين أعالي النيل والمناطق الجنوبية من الصحراء الكبرى (هي جزء من النوبة القديمة) أما المنطقة التي كانت تُعرف بإثيوبيا هي الآن جزء من السودان. كان الإغريق يستخدمون هذا المصطلح للإشارة إلى هذه المنطقة وشعبها.
٣) تعارض تصوير إندروميدا: ما تزال الطريقة التي تم تصوير إندروميدا بها تتعارض مع الوصف التقليدي، ففي العديد من الصور تظهر إندروميدا ذات بشرة فاتحة، وهو ما يتناقض مع الأوصاف التقليدية للأشخاص في إثيوبيا. في الواقع كلمة "إثيوبيا" في اللغة اليونانية تعني "الوجه المحترق" وهو ما يشير إلى البشرة الداكنة على الرغم من ذلك يتم تصوير إندروميدا في العديد من الأعمال الفنية على أنها ذات بشرة فاتحة (أوروبية الملامح) مما يعكس فهمًا ثقافيًا مختلفًا، ويُقال أيضًا أن البعض وصفها بأنها جميلة رغم كونها ذات بشرة داكنة، وأكدوا أن جمالها كان يتجاوز اللون، وفي المقابل هناك من وصفها بالقبح بناءً على لون بشرتها بينما الحب الذي وجده فيها فرساوس يعتبر تجاوزًا لهذه التصورات العنصرية.