زهرة الكرز أو الساكورا ليست مجرد زهرة جميلة تزين الفصول، بل هي أسطورة حيّة تتراقص على أطراف الأغصان تحمل في طياتها حكايات من الفقد والجمال الزائل، ومن خلال هذه المقالة سنغوص معًا في تاريخها الغني بالأساطير الخفية التي تسرد لنا قصصًا لا تُنسى.
الوصف النباتي للساكورا: زهرة الكرز هي نبتةٌ مميزةُ الشكل تنبت من شجرة الكرز المُزهرة، وتتميّز بأنها إما معمّرة أو قصيرة العمر إذ لا تدوم طويلاً، وتضمّ هذه الزهرة أنواعًا عديدةً يُقدَّر عددها بأكثر من ألف نوع يمكن تمييز كلٍّ منها عن الآخر بسهولة. تنتمي الساكورا إلى جنس البرقوق (الخوخ) من فصيلة الورديات، وهي فصيلة تزهر بألوان زاهية تُشبه أزهار الورد، ويُصنّفها البعض أحيانًا ضمن عائلة اللوزيات. عادةً ما يكون خشب شجرة الكرز بنيًّا مائلًا إلى الحُمرة أما أزهارها فتتبدّل ألوانها خلال فترة الإزهار، فتبدأ باللون الوردي الفاتح ثم تتحوّل إلى الأبيض أو الوردي الداكن، وقد تأخذ ألوانًا برونزية داكنة وصولًا إلى الأحمر أو البرتقالي أو الوردي الصارخ. تنمو الشجرة حتى يبلغ ارتفاعها ما بين خمس عشرة إلى خمس وثلاثين قدمًا (أي نحو اثني عشر مترًا تقريبًا)، وذلك بحسب نوعها والبيئة المحيطة بها.
في لغة الزهور معناها هو: تُعتبر رمزًا للزوال وهشاشة الحياة (تذكيرًا بطبيعة الحياة العابرة).
اسم زهرة الكرز: اسمها الشهير "ساكورا" و يعود أصله إلى اليابان.
هنالك العديد من الأساطير التي تحيط بنبتة زهرة الكرز ومن أبرزها:
قصة شعبية عن تضحية الساموراي:
يُحكى أن ساموراي عجوز عاش أطول من أبنائه وأحبائه، لكن سعادته الوحيدة ورفيقته العزيزة في الحياة كانت شجرة الكرز القديمة الموجودة في حديقته منذ أجيال، فعندما كان صبيًا كان يلعب تحت أغصانها يوميًا، فأحبها حبًا جمًا (كان يعتقد أن أسلافه كانوا يشاركونه اللعب تحتها معه)، وعندما كبر وبدأت الشجرة تذبل قبل موتها أصيب العجوز بحزن عميق إذ لم يكن هناك شيء يمكن أن يعوّض خسارتها بالنسبة له. في اليوم السادس عشر من الشهر القمري الأول (يناير) وقف تحت الشجرة وتمنى أمنية أخيرة بأن تُزهر من جديد قائلاً: «أتوسل إليكِ أن تأخذي حياتي وتبدأي بالإزدهار من جديد» ثم أنهى حياته بطريقة الهاراكيري التقليدية (طريقة يابانية قديمة تتلخص في قطع الأحشاء باستخدام سيف صغير حيث يُشق البطن بخط أفقي من الشمال إلى اليمين ثم يُكمل الشق رأسيًا نحو أسفل البطن حتى ينزف حتى الموت)، وبعد أن أنهى الساموراي حياته تشبعت جذور الشجرة بدمه، فانتقلت روحه إليها و أزهرت على الفور، ولذلك تتفتح أزهار الساكورا كل عام في اليوم السادس عشر من الشهر القمري الأول خلال موسم الثلوج.
١) يُقال إن أزهار الكرز كانت في الأصل بيضاء فقط، ولكن مجموعة من الساموراي (المحاربين) أنهوا حياتهم تحت أشجارها للحفاظ على "بوشيدو" (قواعد أخلاقية صارمة للشرف والانضباط بين الساموراي)، وذلك لتجنب الوقوع في أيدي العدو ولإزالة عار الهزيمة موت مشرف بالانتحار، فتسربت الدماء الحمراء ببطء إلى التربة مما أدى إلى تصبغ بتلات أزهار الكرز باللون الأحمر تدريجيًا. كلما كانت الأزهار أكثر احمرارًا دل ذلك على كثرة الأرواح (النفوس) المدفونة تحت الشجرة (تساقط بتلاتها يشير إلى نهاية حياة الساموراي).
٢) يُحكى أن حاكمًا قاسيًا أمر بربط امرأة لديها أطفال بجذع شجرة الساكورا وجلْدِها حتى الموت، ولذلك تُعتبر بتلات الورد الوردي رمزًا لتذكير بالضحايا الأبرياء الذين عانوا من ظلم هذا الحاكم.
قصة أرواح الساكورا:
توفيت ممرضة الحليب (أوبا-زاكورا) التي ضحت بحياتها لإنقاذ طفل كانت تعتني به، فانتقلت روحها إلى شجرة الكرز، وبسبب ذلك اعتقدت الأمهات أن الحليب الذي يُرضع تحت ظل الشجرة يحمل قوى غامضة إذ كان يُعتبر مغذيًا بشكل فريد مما يضمن صحة وحيوية الأطفال لذا غالبًا ما كانت العائلات تتجمع تحت أغصانها.
١) يُروى في الأساطير القديمة أن شجرة الكرز تحتوي في أعماقها إكسير الحياة ذلك الشراب السحري الأسطوري الذي يُعتقد أنه يمنح الخلود (خلود الروح واستمرارها عبر التناسخ).
٢) في الأساطير الصينية يُعتقد أن طائر الفينيق الأسطوري يخلد إلى النوم في عشٍ من أزهار الكرز،إذ تُباركه تلك الأزهار وتمنحه القدرة على التجدد مما يُقرّبه من نيل الحياة الأبدية.
٣) في الروايات البوذية يُروى أن والدة بوذا وضعت مولودها تحت شجرة كرز، ولهذا ارتبطت هذه الشجرة في الثقافة البوذية بمعاني الخصوبة والأنوثة المقدّسة.
قصة دمعة الكرز:
يُحكى أنّ فتاةً جميلة وقعت في حبّ شابٍ يعمل معها في المكان نفسه لكنّ القدر فرق بينهما حين نُقل الشاب إلى مدينةٍ بعيدة. كلّما رأت أزهار الكرز تتساقط كانت تبكي بحرقة وتكتب له رسائل تطلب منه العودة غير أنّه رغم حبّه لها أخبرها أنّه عاجز عن تغيير الواقع. ظلّت تبكي حتى جفّت دموعها وسالت بدلًا منها دماء، وفي نهاية المطاف ماتت من شدة الحزن وذابت روحها في شجرة الكرز، فتحوّلت إلى جزءٍ منها، ومنذ ذلك الحين تحوّل لون بتلات الكرز من الأبيض إلى الأحمر، رمزًا لحبّها النازف. بعد زمن عاد الشاب باحثًا عنها، وأدرك بعد فوات الأوان أنّه لا يستطيع العيش من دونها دون أن يعرف مدى عمق حبّها له.
قصة حين صارت الشجرة إنسانًا :
يُحكى أنّه في زمن الحرب خيّمت أجواء قاتمة على أنحاء اليابان ما عدا غابة جميلة نجَت من الحزن والدمار، وفي تلك الغابة وقفت شجرة غريبة لم تُزهر يومًا، وكانت طاقتها تنفّر الأعشاب والحيوانات من الاقتراب منها حتى صار مشهدها باعثًا للكآبة.
تأثرت جنّية الغابة بحال الشجرة، فاقتربت منها وهمست لها بأنها تتمنى رؤيتها مزهرة كغيرها من الأشجار، وألقت عليها تعويذة تدوم عشرين عامًا تمنحها القدرة على التحوّل إلى بشري بشرط أن تختبر مشاعر تمنحه القدرة على الإزهار، وإن لم يحدث ذلك فستموت بعد انتهاء المدّة.
وافقت الشجرة، وتحوّلت إلى شاب، وأطلقت على نفسها اسم يوهيرو أي "الأمل" لكنّ العالم البشري كان يضجّ بالحرب والكراهية، فلم يشعر سوى بالحزن والوحدة، وظلّ يتجول فاقدًا للدافع.
وذات يوم التقى بفتاة جميلة تُدعى ساكورا. ساعدها في حمل الماء إلى بيتها، وأثناء حديثهما تعارفا وتشاركا الألم والقلق من الحرب. تكررت لقاءاتهما، وبمرور الوقت نبت بينهما حبٌ خجول، وحين اعترف لها يوهيرو بحقيقته كشجرة على وشك الفناء تأثرت ساكورا لدرجة العجز عن الردّ.
ومع اقتراب نهاية السنوات العشرين عجز يوهيرو عن الإزهار، وتحول مجددًا إلى شجرة باهتة حزينة. حين رأته ساكورا تذكرت كلماته، فاحتضنته بشدة واعترفت له بحبها عندها ظهرت جنية الغابة وسألتها إن كانت تود البقاء بشرية أم الاندماج مع يوهيرو إلى الأبد كشجرة واحدة! ترددت ساكورا ثم قالت بثقة: «أُفضّل أن أزهر معه إلى الأبد، على أن أذبل بدونه» وهكذا دمجتهما الجنية، وازدهرت الشجرة لأول مرة في مشهدٍ يفيض بالحب والدهشة.
أسطورة كونوهانا ساكويا هيمي:
يُحكى في الأساطير اليابانية أن الإلهة "كونوهانا ساكويا هيمي" التقت ذات يوم على شاطئ البحر بالإله الوسيم "نينيجي نو ميكوتو" (حفيد إلهة الشمس أماتيراسو)، فوقعت بينهما مشاعر الحب من النظرة الأولى. أسرع نينيجي إلى والدها (إله الجبل العظيم أوهو ياماتسومي) طالبًا يدها للزواج لكنّ الوالد في عرض مُبهم وغريب اقترح عليه بدلاً من ذلك أن يتزوّج ابنته الكبرى "إيوا ناغا هيمي"، رفض نينيجي هذا العرض، بل ووصف الأخت الكبرى بالقبح مُصرًا على أن قلبه لا يرى سوا "كونوهانا ساكويا" الفاتنة. رضخ الوالد غاضبًا لكنه قال: «ليكن إذًا، أحفاد إيوا ناغا سيكونون في صلابة الصخور وخلودها أمّا أحفاد كونوهانا، فستكون حياتهم قصيرة زائلة كأزهار الربيع»، وبذلك تزوّج نينيجي من كونوهانا، وكان هذا الاتحاد هو أصل السلالة البشرية، وهو ما يُفسّر في الموروث الياباني قِصر عمر الإنسان وفنائه.
لكن الريح لم تَجرِ كما اشتهت السفن؛ إذ حملت كونوهانا في اليوم التالي للزواج، فاستبدّ الشك بنينيجي، واتّهمها بالخيانة، فغضبت غضبًا ناريًّا، وأغلقت على نفسها في كوخ خشبي، وقالت له بتحدٍّ: «إن كان هؤلاء الأبناء من نسلك السماوي، فسينجون حتى وسط النار، وإن لم يكونوا، فدع النيران تلتهمنا معًا!» أشعلت النار حولها، وداخل اللّهب وضعت ثلاثة أبناء سالمين: هوديري، هوسوسيري، وهوري.
*عند وفاة "كونوهانا ساكويا" نمت شجرة جميلة على قبرها، وأُطلق عليها اسم "ساكورا"، ومن هنا جاءت قدسية هذه الزهرة فقام البشر ببناء العديد من الأضرحة على جبل فوجي معتقدين أن الإلهة ستمنع البركان من الثوران. كما أصبحت شجرة الساكورا رمزًا للحماية حيث يُصلى بها لتسهيل الولادة وحماية الناس من الحرائق والانفجارات البركانية.
في إصدار آخر من الأسطورة قيل إن الأب اقترح على "نينيجي" أن يتزوج من الشقيقتين "كونوهانا ساكويا هيمي" و"إيوا ناجا هيمي" معًا لكن "نينيجي" رفض هذا العرض وأصر على الزواج من "كونوهانا".
قصة كونوهاناكاييجي:
الأسطورة تحكي عن فتاة جميلة تدعى "كونوهاناكاييجي" (التي تعني زهرة الكرز) التي انطلقت من أوكيناوا في نوفمبر، وسافرت عبر اليابان حتى وصلت إلى هوكايدو في مايو من العام التالي، وعلى طول الطريق كانت تزرع أزهار الكرز التي تفتحت في جميع أنحاء اليابان. تكريمًا لها ولعملها الشاق أطلق الناس على الزهرة اسم "الساكورا"، وأصبحت رمزًا للحب والأمل والعمل الجاد في اليابان.
١) يُحكى أن فتاة من الجن التقت بشاب على ضفاف نهر سوميدا في طوكيو، وأصبحا صديقين. قررا معًا الذهاب إلى قمة جبل، وهناك طلبت منه أن يقطع شجرة على القمة. حينما قطعها تفتحت الأزهار من داخلها، وأخرجت ما هو جميل لليابان.
قصة الفتاة المنتحرة:
يُقال أن شجرة الكرز كانت في الأصل فتاة ترتدي فستانًا ورديًا، وعندما انتحرت بالسيف بسبب قتل والدها لحبيبها انسكب دمها على العشب الذي نما ليصبح شجرة، ولذلك تبدأ أزهار الكرز باللون الأبيض ثم تتحول إلى الوردي ثم الأحمر رمزًا لدماء العاشقين.
حب مفقود في ظل الشجرة:
وقعت الجنية "ساكورا نو هانا" في حب شاب مهاجر، وكانت تعلم أنه سيعود يومًا ما إلى موطنه، ولكي تعتز بوقتها معه كانت تلتقي به كل يوم تحت شجرة أزهار الكرز، وعندما حان وقت مغادرته بكت وحيدة تحت الشجرة حتى سقطت بتلات الأزهار لتهدئتها، فهب النسيم وأوقع البتلات على الأرض مما زاد من ألم قلبها. بكت لأيام وقالت: «أنا جنية أزهار الكرز! أنا بتلة منها، ولن أستطيع سوى النظر إلى العشاق السعداء ولن أسعد أبدًا» ثم اختفت نهائيًا، ويقال إنها تحولت إلى بتلات أو عادت إلى الشجرة.
بعد سنوات عاد الشاب باحثًا عنها ليخبرها بحبه، لكنه لم يجدها. سمع الأساطير المتداولة في القرية وعرف أن الوقت قد فات، فوقف تحت الشجرة وأقسم أن يكون جميع العشاق مخلصين لبعضهم البعض وألا يفتقدوا بعضهم ثم ظل يبحث عنها ولم يغادر القرية حتى مات، ومنذ ذلك الحين يُقال إن أزهار الكرز تتساقط وكل بتلة تبحث عن نصفها الآخر مما جعلها رمزًا للحب المفقود.
