لوحة فيفا لا فيدا: الفنَّانة المكسيكيّة فريدا كاهلو

تُعدّ لوحة فيفا لا فيدا آخر ما أبدعته ريشة الفنّانة المكسيكيّة فريدا كاهلو، وهي شهادة حيّة على روحٍ تحدّت الألم حتى اللحظة الأخيرة، وفي هذه المقالة سنسير في دروب سيرتها خطوةً خطوة حتى نصل إلى تلك اللوحة التي ودّعت بها الحياة.

 

لمحة عن حياة فريدا كاهلو: الجسد الجريح والروح الثائرة
عاشت فريدا حياةً معذّبة مزّقتها داخليًا وخارجيًا ابتليت بها منذ سن مُبكر، فعند عمر السادسة عام ١٩١٣م أُصيبت بشلل الأطفال الذي جعلها تضطر لقضاء أشهر طريحة الفراش، ومن بعدها أدى إلى إصابتها بالعرج كون ساقها اليمنى أصبحت أقصر من الساق اليسرى (تشوهت أصابع قدميها وساقها اليمنى) ثم في عام ١٩٢٥م عندما ناهزت عمر الثامنة عشر نجت بأعجوبة من حادث حافلة مروع غير حياتها بشكل عميق، وجعلها تُعاني بسببها من آلام متكررة طيلة حياتها تحديدًا أُصيبت من خلالها بعمودها الفقري (النخاع الشوكي) في عدة أماكن، وكُسرت قدمها اليمنى، وتضرر حوضها، وعلى أثره ظلت طريحة الفراش لمدة ثلاثة أشهر، وعندما ظنت أنها بدأت تتعافى تمامًا (بدأت بالسير) عانت من جديد من آلام متكررة في عمودها الفقري وقدمها اليمنى (اكتشف الأطباء نزوح عدة فقرات)، فأُدخلت للمستشفى من جديد، واضطرت إلى إجراء ما يقارب ٣٥ عملية جراحية على مدى حياتها لمساعدتها في إصابات العمود الفقري، وللأسف نظرًا لقوة الحادث عليها الذي كما لو أنه لعنها كي لا تحقق أمنيتها بأن تصبح أمًا (لم يستطع جسدها التحمل مما أدى إلى حدوث العديد من حالات الإجهاض)، وعاشت مع آلام مزمنة، وفي عام ما بين ١٩٥٠م و ١٩٥٣م أُصيبت بالغرغرينا، فبُتِرت ساقها اليمنى جراء العمليات الجراحية العديدة الفاشلة على قدمها وساقها، وفي هذه الأثناء خضعت لآخر عملية جراحية في عمودها الفقري، ومن بعدها قضت بقية حياتها على الكرسي المتحرّك (لم تتمكن من المشي مطلقًا).
معاناة فريدا النفسية :
ليس هذا فحسب فقد عانت فريدا نفسيًا طيلة حياتها أولًا: من زواجها عام ١٩٢٩م من "زئير النساء" الرسام دييغو ريفيرا الذي كان يبلغ من العمر ٤٣ عامًا بينما كان عمرها يتراوح تقريبًا ٢٢ عامًا، ورغم حبها وإخلاصها الشديد له، فقد خانها باستمرار (علاقة مضطربة)، وما كان مُفجعًا بالنسبة لها هو خيانته لها مع أختها كريستين، فتطلقت منه سنة ١٩٣٩م بعد عشر سنوات من الزواج ثم تزوجا من بعضهما مرةً أخرى بعد عام من الطلاق (١٩٤٠م)، واستمر زواجهما حتى وفاتها سنة ١٩٥٤م.



         رِسالة فريدا كاهلو طريحة الفِراش إلى زوجها قبل قيامها ببتر ساقها اليمنى عام ١٩٥٣م :
أكتب هذه الرسالة من غرفتي في المستشفى قبل دخولي إلى غرفة العمليات. يُريدون مني أن أُسرع، ولكنني مُصممة على إنهاء هذا الخطاب أولاً لأنني لا أريد أن أترك أي شيء غير مكتمل خاصةً الآن بعد أن عرفت ما يُخططون له إنهم يريدون إيذاء كبريائي بقطع ساقي (أخبروني بضرورة البتر)، وعلى الرغم من ذلك لم يؤثر الخبر فيّ بالطريقة التي كان يتوقعها الجميع. لا فلقد أصبحتُ بالفعل تلك المرأة المشوهة بعدما فقدتك مرةً أخرى ربما للمرة الألف، ومع ذلك ما زلتُ على قيد الحياة (لقد نجوت) أنا لا أخشى الألم وأنت تعرف ذلك جيدًا، فالألم كما تعلم متأصل في كياني دائمًا، وعلى الرغم من أنني اعترفتُ بأنني عانيتُ وعانيتُ كثيرًا عندما قمت بخيانتي في كل مرة فعلت فيها ذلك ليس فقط عندما خنتني مع أختي ولكن مع العديد من النساء الأخريات. كيف سمحوا لأنفسهم أن ينخدعوا بك؟ أتعتقد أنني غاضبة بشأن أختي كريستينا؟ اعترف بأن ذلك لم يكن بسببها، بل كان بسببِ وبسببك.
في المقام الأول بسببِ لأنني لم أتمكن أبدًا من فهم ما كنت تبحث عنه لدى الأخريات، وما هو الشيء الذي كانوا قادرين على إعطائك إياه ولم أستطع أنا. دعنا لا نخدع أنفسنا يا دييغو، فلقد أعطيتُك كل ما يمكن أن يقدمه إنسان وكلانا يعرف ذلك جيدًا لكن مع ذلك كيف بحق الجحيم تمكنت من إغواء هذا الكم من النساء بينما أنت ابن عاهرة قبيح! السبب الذي دفعني إلى الكتابة لك ليس مجرد اتهامي لك بأي شيء أكثر مما اتهمنا به بعضنا البعض بالفعل في هذه الحياة الدموية، ومهما كان عددها، ولكنني أكتب إليك بسبب بتر قدمي (اللعنة! حصلت قدمي على ما تريد بالفعل في النهاية).
لقد أخبرتك لفترة طويلة بأنني أعتبر نفسي شخصًا غير كامل، ولكن لماذا بحق الجحيم يجب أن يعرف الجميع عن ذلك؟ والآن سيكون عجزي واضحًا ليراه الجميع، ولكم أن تروا... ولذلك أخبرك بذلك قبل أن تسمع عن ذلك اعذرني على عدم ذهابي إلى منزلك لأقول هذا شخصيًا لكن نظرًا للظروف وحالتي (لا يُسمح لي بمغادرة الغرفة ولا حتى لاستخدام الحمام)، فإنني حقًا لا أستطيع. ليس في نيتي أن أجعلك تشعر بالشفقة أو أي شخص آخر، ولا أريدك أن تشعر بالذنب، ولكنني أكتب لأعلمك بأنني سأطلق سراحك وأنني، وسأبتُرك أيضًا كما ستبتر قدمي (سأقطعك).
كن سعيدًا ولا تبحث عني مرةً أخرى. لا أريد أن أسمع عنك ولا أريدك أن تسمع عني أي شيء إذا كان هناك شيء سأستمتع به قبل موتي فهو عدم اضطراري إلى رؤية وجهك اللعين المقزز وهو يتجول في حديقتي هذا كل شيء، يمكنني الآن فقط أن أذهب لأُقطع بسلام. وداعًا من شخص مجنون يحبك بشدة.
عزيزتك الخاصة بك فريدا.


ثانيًا: عندما وصل الألم إلى ذروته في سنواتها الأخيرة، وزاد اعتمادها على المسكنات القوية وهي مقيدة في منزلها دخلت في نوبات اكتئاب شديدة جعلتها تفقد الاهتمام بالحياة، وبدأت في محاولة الانتحار عدة مرات بالفعل (كانت أفكار الانتحار تراودها باستمرار) من خلال الشنق أو تناول جرعة زائدة.

        «لقد بتروا ساقي منذ ستة أشهر، وعذبوني لقرون من التعذيب، وفي لحظات كنت أكاد أفقد عقلي. استمررت في الانتظار حتى أقتل نفسي، لم يسبق لي أن عانيت أكثر من ذلك في حياتي».



«ظنوا أنني سريالية لكنني لم أرسم أحلامًا أبدًا، بل رسمتُ واقعي الخاص».

هل أرادت فريدا أن تصبح رسامة؟
في الأصل كانت فريدا ترغب في أن تصبح طبيبة، ولكن بعد الحادث الذي تعرضت له، والذي استغرق تعافيها منه أكثر من عام تخلت عن حلمها في الطب وتركَت الجامعة بسبب الألم المتواصل الذي رافقها، وبالتالي اضطرت إلى التخلي عن حلمها في أن تصبح طبيبة، وبدأت في الرسم بدلاً من ذلك.


أثناء فترة تعافيها الطويلة لجأت فريدا إلى الرسم من على سريرها باستخدام حامل خاص يُتيح لها الرسم أثناء استلقائها، وذلك للتنفيس عن آلامها وإظهار معاناتها من خلال الفن، ولملء وقت فراغها الطويل. كانت فنانة عظيمة وصفَت من خلال لوحاتها الفنية شعورها بواقعها المرير، وكأنها كانت تكشف لنا من خلالها تقارير طبية عن نفسها مما جعل مهمتنا في محاولة فهم معاناتها وقراءة أعمالها صعبة ومعقدة.

لوحة الفنانة فريدا كاهلو الصحية الأخيرة (فيفا لا فيدا، البطيخ، ١٩٤٥م): 

على الرغم من تدهور حالتها الصحية وتفاقمها مع اقتراب نهاية حياتها إلا أنها أكملت لمساتها الأخيرة على لوحتها الفنية الأخيرة التي تحمل عنوان "فيفا لا فيدا" (تحيا الحياة) قبل أسبوع (ثمانية أيام) من وفاتها عام ١٩٤٥م عن عمر يناهز ٤٧ عامًا، وقد أهدتها قبل وفاتها إلى زوجها الفنان دييغو ريفيرا.

ما هو سبب وفاتها؟
يُعتقد أن السبب الرئيسي لوفاة فريدا كاهلو كان نتيجة لإِنسداد رئوي حاد إلا أن هناك بعض الأقاويل التي تشير إلى أنها قد تكون قد أقدمت على الانتحار، ويقال إن زوجها الفنان دييغو ريفيرا ساعدها في ذلك بل وحاول إخفاء حقيقة فعلتها تلك.

         عُثر بجانبها على آخر تدوينه كتبتها في مُذكراتها قبل أيام قليلة من وفاتها حيث كتبت: «آملُ أن يكون مخرجي من هذهِ الحياة مُمتعًا، وآمل ألّا أعود أبدًا إليه ثانية».

شرح لوحة "فيفا لافيدا": رسمت فريدا ببساطة بطيخًا كاملاً بما في ذلك شرائح بطيخ مقطعة بأشكال متنوعة مثل رُبع أو نصف أو حتى على شكل زهرة لتظهر الثمار من الداخل باللون الأحمر النابض بالحياة، وتتميز جميعها بظلال متفاوتة من اللون الأخضر مما يرمز إلى مرورها بمراحل حياتية مختلفة.

أما البطيخ ذاته فيمثل فريدا إذ أن قشرته الصلبة تدل على محاولتها المستمرة للتغلب على حياتها المليئة بالآلام النفسية والجسدية (صنعت القشرة لتتحمل وتحمي ما بداخلها)، وبمجرد قطع القشرة يظهر ما بداخلها من حياة حيوية نابضة بالألوان، ولكي تترك وصيتها ورسالتها الأخيرة لنا حتى نفهم رمزية لوحتها حرصت على كتابة بخط جريء على اللُب الأحمر للبطيخة المركزية الموجودة في أسفل اللوحة عبارة "فيفا لافيدا" الإسبانية التي تعني "تحيا الحياة" أو "عش حياة مديدة"، وبالإضافة لذلك كتبت بجانب العبارة اسمها ومكان ولادتها الذي توفيت فيه أيضًا (كويواكان) وتبعه تاريخ وفاتها، والآن اللوحة حاليًا محفوظة في متحف فريدا كاهلو في مكسيكو سيتي.



في أبسط صوره حاولت فريدا أن تُخبرنا أنه مهما حاولت الحياة أن تصب المصاعب عليك يجب أن تخلق لنفسك قشرة لتحميك من تلك الصعاب (تحمي البذور)، فحتى وإن زالت القشرة يومًا ما ستشعر بحلاوتها السرمدية الباردة التي تنبع من الداخل مثلما يظهر بداخل البطيخ الناضج من طعمٍ لذيذ وحياة نابضة.

أما بالنسبة لاختيارها البطيخ تحديدًا فيقال إن ذلك يرتبط بعيد "يوم الموتى" في المكسيك حيث يحتفل المكسيكيون بموتاهم بدلاً من الحداد عليهم، ففي هذا اليوم يُعتقد أن الأرواح تزور الأحياء، وأنهم يتناولون البطيخ، ولذلك قد يكون البطيخ هنا رمزًا لموتى فريدا ولربما كإشارة إلى مدى إقتراب موتها هي نفسها مما يجعل هذا الرسم في عين البعض بمثابة بيان صريح لمعرفتها بأن نهايتها قريبة.

هناك أيضًا احتمالية أن تكون اللوحة بمثابة رسالة تتعلق بفكرة الانتحار، والتي قد تكون قد خطرت ببالها في تلك اللحظة، وهو ما يمكن أن يفسر مشاعرها المعقدة تجاه الحياة والموت في تلك الفترة.


في ذكرى فريدا: كلمات دييغو ريفيرا بعد وفاتها

بعد وفاتها كتب زوجها في سيرته الذاتية: «هذا اليوم هو أكثر الأيام مأساوية في حياتي لقد فقدتُ فريدا الحبيبة إلى الأبد، والآن أدركتُ بعد فوات الأوان أن الجزء الأكثر روعة في حياتي كان حُبي لفريدا لكنني لا أستطيع حقًا أن أقول إنني لو أتيحت لي "فرصة أخرى" كنت سأتصرف تجاهها بشكل مختلف عما فعلته كل إنسان هو نتاج المحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه، وأنا ما أنا عليه الآن... لم يكن لدي أي أخلاق على الإطلاق وعشتُ فقط من أجل المتعة حيثما وجدتها لم أكن جيدًا أستطيع أن أميز نقاط ضعف الآخرين بسهولة خاصةً الرجال ثم أتلاعب بها دون سبب وجيه إذا أحببتُ امرأة كلما أردتُ أن أؤذيها كانت فريدا فقط الضحية الأكثر وضوحًا لهذه السمة المثيرة للاشمئزاز».

قيل في جنازتها أن زوجها في حالة من اليأس قام بجمع حفنة من رمادها بعد حرق الجثة ووضعها في فمه، وبعد ثلاث سنوات من وفاتها، توفي دييغو في ٢٤ نوفمبر عام ١٩٥٧م بسبب مضاعفات قصور القلب لديه، ولكن قبل وفاته بأيام قام ريفيرا برسم العديد من البطيخات المقطعة بعنوان "لاس ساندياس" تكريمًا لزوجته ودليلًا على ترابطهما الروحي (ترمز لدورة الموت والحياة) وربما لإظهار مدى قربه الروحي منها.


📝 بقلمي (اللهم جمل أقدارنا واكتب لنا ما نتمنى، واصرف عنا شر الغيب).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال