زهرة الأقحوان: ذاكرةٌ تنبض بأساطيرها

الأقحواناتُ ليست مجرّد أزهارٍ تتفتّح في الخريف بل صفحاتٌ بيضاء نُقشت عليها حكاياتُ الخلود، ووشوشاتُ الآلهة، وأمنياتُ البشر، وفي هذا المقال سنتعرّف على أبرز الأساطير التي ارتبطت بالأقحوان، ونكتشف كيف تحوّلت هذه الزهرة من نباتٍ موسمي إلى رمزٍ خالد في الثقافة والأسطورة.

الشكل والخصائص: الأقحوان هو جنسٌ نباتي عشبيّ معمّر ومُزهر ينتمي إلى فصيلة النجمية (المُركّبة)، ويضم حوالي أربعين نوعًا، وتتميّز أزهاره بألوانٍ نابضة بالحياة مثل الوردي الساطع، والأرجواني، والأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأبيض، وغالبًا ما تزهر زهرة الأقحوان في الفترة الممتدة من أواخر الصيف حتى أوائل الشتاء، ويبلغ طولها عادةً ما بين قدمٍ واحد وثلاثة أقدام. 

تنمو هذه الزهرة في البيئات شبه الاستوائية والمعتدلة مثل شرق آسيا، وشمال شرق أوروبا، وأفريقيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من المناطق ذات المناخ المناسب.

الاسم العلمي: كريسانثيموم مشتق من كلمة يونانية تعني "الذهب".

الأسماء الشائعة لزهرة الأقحوان:
١) في دمشق تُعرف زهرة الأقحوان باسم زهرة الغريب أما في مصر فتُسمّى أرواله.
٢) تُسمّى أيضًا في بعض المناطق بـبينج بونج، أو أمهات الحديقة، أو أقحوان زهرة الذهب، والزهرة الذهبية.

في لغة الزهور الأقحوان تعني؟ الأقحوان يرمز إلى الروح الجديدة، والحقيقة، والنبل.

ما هي رمزية زهرة الأقحوان؟ يختلف المعنى الرمزي للأقحوان اعتمادًا على اللون، ونوع الزهرة، والثقافة المحلية التي تتعامل معها أي باختلاف موقعها في أنحاء العالم.

١) الأقحوان الأحمر: يرمز إلى الحب الذي لا يلين والعاطفة العميقة، وكأنه يقول: «أنا أُحب، أنا أُحبُك، أنا واقعٌ بحُبِك» إنه تعبير عن حب غير مشروط.

 

٢) الأقحوان الأصفر: يرمز إلى الحب المهمل أو رفض الاعتراف به عاطفيًا لكنه في الوقت نفسه يُعبّر أحيانًا عن السعادة والفرح والاحتفال.

 

٣) الأقحوان الأبيض: يرمز إلى الولاء، والإخلاص، والصدق، والتعاطف، والذكرى، وغالبًا لونها الأبيض المميز يحمل مشاعر التعازي والاحترام للمتوفي «أتمنى له الرحيل إلى الآخرة بسلام خاليًا من كل ألم وعقاب».

 

٤) الأقحوان الأرجواني: يرمز إلى الرغبة في الشفاء والتمنيات الطيبة بحياة أبدية كما يحمل في طيّاته التفاؤل الذي لا يتزعزع، وكأنّه يهمس لك: «من فضلك ثق بي، فكل أحلامك ستتحقق» .

٥) الأقحوان البرتقالي: يرمز إلى السعادة، والمشاعر الطيبة، والحماس، والإثارة كأنها شرارة نار تلهب القلب وتوقظ الحواس.

 

٦) الأقحوان الوردي: يرمز إلى المودة، والصداقة، والأحلام السعيدة.

 

٧) الأقحوان الأخضر: يرمز إلى البداية الجديدة، والتجدد، والحظ السعيد.

تتنوّع الأساطير والقصص حول زهرة الأقحوان بين الصين وكوريا واليابان، ومن أشهرها:

١) الأسطورة الصينية (زهرة الأقحوان وعُشبة الشباب الأبدي):

قبل ثلاثة آلاف عام في زمنٍ غابر تلقى إمبراطورٌ مسنٌّ خبرًا مدهشًا مفادهُ أن في جزيرة نائية تُدعى جزيرة ذبابة التنين/ اليعسوب في بحر الشروق (اليابان) تنمو عشبة سحرية تمنح الشباب الأبدي، ولا يمكن قطفها إلا بأيدي الشباب.

أرسل الإمبراطور اثني عشر، وأحيانًا يُقال أنهم أربعة وعشرين شابًا وشابة في رحلة محفوفة بالمخاطر على متن سفينةٍ تبحر في أمواج البحر المتلاطمة عازمين على جلب إكسير الحياة. في طريقهم واجهوا عواصف عنيفة وثعابين بحرية مخيفة ما أثار استيائهم وقلقهم، وعندما بلغوا الجزيرة المنشودة وجدواها مهجورة تمامًا بلا سكان ولا عشبة سحرية، بل فقط زهرة الأقحوان الذهبية تتلألأ في صمت، كأنها تحرس سر الحياة ذاتها فقرروا البقاء على هذه الأرض الغريبة، واستعملوا ما جلبوه من مقتنيات للتجارة والحياة، واعتبروا زهرة الأقحوان الذهبية رابطًا يرمز إلى وطنهم الجديد، وأطلقوا على أنفسهم اسم إمبراطورية اليابان

* يُقال إن الدائرة الحمراء في علم اليابان ليست مجرد شمس، بل هي زهرة الأقحوان الذهبية.

 

 

٢) أسطورة (كيكوسوي / كيكوجيدو / ماكوراجيدو):
خلال عهد أسرة تشو في الصين اتُهم صبي خادم يبلغ من العمر ستة عشر عامًا بأنه داس على وسادة الملك، فكان عقابه النفي إلى جبل بين مقاطعتي لوكسيان ونانيانغ، وهناك نُسخ أربعة أبيات من السوترا وهي نصوص مقدسة على ورقة من زهرة الأقحوان، فسقط ندى الصباح عليها، فامتزج بالورقة وأصبحت إكسيرًا للخلود.

في نسخة أخرى من الأسطورة ذُكر أن هناك أزهار أقحوان قرب منبع نهر حيث يتساقط الندى على الزهور، ويتجمع في مياه النهر. شرب الصبي من ماء ذلك النهر، فصار ناسكًا / راهبًا عاش لأكثر من ثمانمائة أو حتى ألف عام محتفظًا بمظهره الشبابي. 

٣) الأسطورة اليابانية (إيزاناجي وإيزانامي):
في سماءٍ تكتظ بالآلهة كان العاشقان إيزاناجي وإيزانامي من بينها حيث أُمر بعضهم بالنزول إلى الأرض عبر جسرٍ سحابيّ، وما إن وطأت أقدامهم الأرض حتى بدأت إيزانامي في خلق آلهة الرياح والبحر، وإله الجبال، وغيرها من الكائنات الإلهية حتى وصلت أخيرًا إلى ولادة إله النار تلك الولادة العسيرة التي كلفتها حياتها (لم تنجو من مخاضها) إذ هلكت في ألسنة النار التي اشتعلت بداخلها أثناء خلقها إله النار. 

يأس إيزاناجي وحزن قلبه، فقرر النزول إلى العالم السفلي المعروف بـ 'الليلة السوداء'، باحثًا عن إيزانامي، وهناك وجدها في هيئة بغيضة متحللة مغطاة باليرقات إذ قد تناولت عشاء الأموات ولم تعد قادرة على العودة إلى عالم الأحياء، فهرب إيزاناجي مذعورًا من منظرها الرهيب ومن مطاردة إيزانامي له، وعند مدخل الأرض أغلق باب العالم السفلي بحجرٍ ضخم ثم توجه إلى النهر ليتطهر من ملامسة الأموات. هناك نزع ملابسه و أغراضه، وما إن لامست ثيابه الأرض حتى تحولت إلى اثني عشر إلهًا، وتحولت مجوهراته إلى زهور السوسن واللوتس، وبينما ينبثق من قلادته زهرة الأقحوان الذهبية الأولى في العالم لتكون رمزًا للحياة والنقاء والخلود.

في نسخة أخرى من الأسطورة يُقال إن ساحرة عجوز حاولت مطاردته بلا هوادة، فهرب مذعورًا.


٤) الأسطورة الألمانية:

في إحدى ليالي عيد الميلاد الباردة والمثلجة في غابات ألمانيا جلست عائلة من الفلاحين حول مائدة العشاء فجأة تكرر صوت نحيب خفيف ظنوه في البداية أنه صوت الريح، و لكن مع تكرار الصوت مرارًا وتكرارًا فُتح الباب للتحقق، فإذا بهم يجدون رجلاً متسولًا جسده شاحب مائل للأزرق من شدة البرد، فأخذوه برفق ولفوه بالبطانيات الدافئة و تقاسموا معه طعامهم ثم ألقى الرجل المتسول البطانيات عن نفسه، فظهر مرتديًا ثيابًا بيضاء لامعة، وأخبرهم بأنه هو المسيح ثم غادرهم بهدوء وفي صباح اليوم التالي حين خرجت العائلة من منزلها وجدت أمامه نباتات من الأقحوان الأبيض تتمايل في الصباح البارد كأنها تحرسه. 

٥) الأسطورة اليابانية (الأقحوان الأبيض):

يُروى أنه في قريةٍ نائية مهجورة كانت تعيش أمٌّ وابنتها في كوخٍ صغير متكئ على حافة الغابة تحاصره الريح من كل صوب. مات ربُّ البيت مبكرًا، فاضطرت الأم وابنتها للعمل بجدٍ لتغطية نفقات الحياة الشحيحة.

كانت الأم تستيقظ كل صباح مع صياح الديك تكدُّ في العمل من الفجر حتى المغيب كل ذلك فقط لتأمين فتات من طعام يسدّ رمقها وابنتها. 

وفي أحد الأيام لم تستيقظ الأم كعادتها فهرعت الابنة إلى جانبها، لتجد وجه والدتها شاحبًا، وعينيها غائمتين بالوهن. أدركت الفتاة أن أمها قد مرضت، فلفّتها بمعطفها الوحيد وجلست إلى جوارها حائرة لا تدري كيف تعتني بها، وكانت الأم بين حينٍ وآخر تفتح عينيها الذابلتين وتحدق في وجه ابنتها الصغير قبل أن تعود إلى سباتٍ عميق.

ذات ظهيرة مشمسة همست الأم بصوت متهدّج: «يا صغيرتي... عليكِ أن تذهبي وتبحثي عن طبيب، إنني لا أشعر بالارتياح...» فانطلقت الفتاة في الطرقات القفراء تخترق الغابة الباردة تبحث عن طبيبٍ ينقذ والدتها.

بعد السير لمسافةٍ طويلة صادفت رجلاً مسنًا شعره أبيض كثلج الجبال. سألها بلطف: «إلى أين تذهبين بهذه العجلة يا ابنتي؟» فأجابته: «أبحث عن طبيب... أمي مريضة جدًا... حالتها تسوء كل يوم» ابتسم العجوز وقال: «أنا طبيب يا صغيرتي خذيني إلى منزلك».

قادت الفتاة الرجل العجوز حتى وصلا إلى الكوخ. جلس بجوار الأم، فحص نبضها ثم التفت نحو الفتاة وسألها: «هل تعيشان وحدكما؟» «نعم يا سيدي» «وكيف تعتنين بها؟» «أجلس إلى جانبها، أدعو لها، وأحاول حمايتها من البرد» هزّ رأسه بحزن وقال: «أمكِ في حالٍ خطرة سأحتاج زهرة أقحوان بيضاء جميلة من عمق الغابة سأصنع منها دواءً خاصًا» .

رغم البرد القارس خرجت الفتاة مرتدية معطفًا رقيقًا، وسارت تبحث عن تلك الزهرة، وبين الأشجار العتيقة رأت زهرة بيضاء تلمع كنجمة فقطفتها وضمّتها بكلتا يديها، و همست من أعماق قلبها دعاءً شفيفًا: «يا زهر الأقحوان... أرجوكِ، امنحي أمي الشفاء».

وهنا تردّد في أذنها صوت الرجل العجوز كنسمة خفية: «لا تقلقي، يا صغيرتي... كل بتلة في هذه الزهرة هي يومٌ إضافي ستحياه والدتكِ» نظرت إلى الزهرة، وعدّت بتلاتها: «واحد... اثنان... ثلاثة...» حتى بلغت عشرين «آه... فقط عشرون يومًا؟!» وقفت مذهولة ثم خطر لها أمرٌ عجيب: جلست ومزّقت كل بتلة إلى شرائح ناعمة، رفيعة كالحرير حتى امتلأت الزهرة بشرائح لا يمكن عدّها، وركضت عائدة إلى كوخها تحمل زهرة لم ترَ مثلها من قبل.

عند الباب كان الشيخ العجوز بانتظارها، ووجهه يتلألأ بالبشر: «لقد تعافت والدتكِ! هذهِ مكافأتكِ على نقاء قلبكِ وبرّكِ العظيم».

ومنذ ذلك اليوم في كل خريف تزهر الأقحوانات البيضاء بأوراقها الطويلة الناعمة رمزًا للتقوى والبرّ شاهدة على قلب طفلة لم تستسلم. 

 

* وفي روايةٍ أُخرى لم تكتفِ الطفلة بزهرةٍ واحدة، بل تسلّلت نحو الشجرة العتيقة تحت جنح الغابة الصامتة، ومدّت يديها الصغيرة نحو زهور الأقحوان البيضاء. أخذت واحدة، فاثنتين، فثلاثًا... ثم جلست على الأرض الباردة تمزّق كل بتلة إلى شرائح ناعمة كأنها تخيط الأيام لأمها خيطًا بخيط، وعندما جمعت الشرائح معًا بين كفّيها نمت وتكاثرت وتفتحت حتى أصبحت باقةً من نور لا يُعدّ.

٦) الأسطورة اليابانية (زهرة الأم التي قاومت الموت):
في قرية صغيرة وسط جبال اليابان كانت هناك أسرة فقيرة لكنها تنعم بالحب والوئام. لم يكن الفقر يُخيفهم ما دام قلبهم دافئًا، وبيتهُم عامرًا بضحكات طفلهم الصغير لكن ذات صباح بدأ الطفل يشحب شيئًا فشيئًا، وبات جسده نحيلًا كأن الحياة تنسحب منه قطرةً قطرة. كان يبكي بلا توقف، وكل صباحٍ كانت تشتعل فيه حُمّى غريبة لا تُفارق جبينه.

لم يُقصّر والداه قط حملاه من طبيب إلى آخر طرقا أبواب الأعشاب والوصفات القديمة حتى الشامان أعطاهما جرعاتٍ سحرية لكن دون جدوى... المرض ظلّ قابضًا على صغيرهما لا يفلت أنفاسه.

وذات يوم لمّا اشتدّ الألم على الطفل تذكّرت الأم أن رجلاً عجوزًا حكيمًا يعيش في أعماق الغابة، فقبّلت جبين طفلها وتركته في رعاية والده، ومضت وسط الأشجار الكثيفة تتسلّق، تقفز، وتعبر الجداول، تُكافح خطر الغابة بلا تردد... حتى وصلت أخيرًا إلى كوخ خشبي هادئ يجلس عند بابه رجل بلحية رمادية طويلة يتأملها بصمت. سألها بنبرة عميقة: «ما الذي أتى بكِ إلى هنا يا ابنتي؟» أجابت، ودموعها تنساب كالندى: «معذرة على الإزعاج... لكنّ طفلي مريض جدًا، لم نترك بابًا إلا وطرقناه، ولا دواءً إلا وجربناه. قلبي يخشى أن أفقده... أرجوك، ساعدني!» أدخلها العجوز إلى كوخه الصغير، وأصغى إلى قصتها حتى النهاية ثم قال لها بصوتٍ فيه حزن: «للأسف يا ابنتي... ابنكِ يحتضر. لا أملك علاجًا له، لكن أستطيع أن أخبركِ كم بقي له من الأيام ليعيش» شهقت الأم وقلبها يرتجف «ماذا تعني؟! هل سيموت قريبًا؟ لا أحتمل فكرة أن أفقده...» قال الحكيم: «اذهبي إلى الغابة وابحثي عن زهرة ذهبية تُدعى الأقحوان. اقطفي واحدة فقط ثم عدّي عدد بتلاتها فهذا العدد هو عدد الأيام المتبقية لابنك في هذه الحياة».

ركضت الأم دون تردد تفتّش الأرض بعينين دامعتين حتى لمحت زهرة أقحوان صفراء تقف وحدها بين الأعشاب. اقتربت، وقطفتها ثم بدأت تعدّ بتلاتها المرتجفة: «واحدة... اثنتان... ثلاث... أربع؟ فقط أربع؟! لم يتبقَ له سوى أربعة أيام!» ارتمت على الأرض تبكي بحرقة لكن فجأة التمعت عيناها بفكرة! جلست، وبدأت تقطّع كل بتلة إلى شرائح صغيرة رفيعة كالخيوط ثم قسمتها من جديد حتى أصبحت كل بتلة كأنها ألف، وركضت إلى كوخ الحكيم، وقد امتلأ كفّاها بأوراق لا تُعدّ. أخذ العجوز الزهرة، وحاول عدّ بتلاتها لكنه عجز حكّ لحيته الرمادية مبتسمًا، وقال: «ما أعظمك يا امرأة! لقد حوّلتِ أربعة أيام إلى آلاف الأيام. نعم سيعيش ابنكِ طويلاً، سيكبر ويصبح شابًا قويًا، ويتزوّج، وينجب أطفالًا، ويصنع حياةً طويلة كزهرتك هذه».

فرحت الأم، وشكرته بحرارة، وعادت إلى بيتها بقلبٍ ملؤه الرجاء، ومرت الأيام، وتعافى الطفل فعلًا، وصدق الحكيم... عاش طويلًا، وأنجب، وتحوّلت قصته إلى أسطورة.

ومنذ ذلك الحين صارت زهور الأقحوان تُزهر بعددٍ لا يُحصى من البتلات...تذكارًا لأمٍّ شقّت طريق الحياة بذكائها وحبّها.

٧) الأسطورة اليابانية (شبح الأقحوان وبئر الحزن أوكيكو):

في قديم الزمان في مدينة هيميجي اليابانية عاش نبيل جشع في قلعة شامخة تُحفه الكنوز، ويغلفها الغموض. كان لا يثق بالبشر بسهولة، فأسند حراسة مقتنياته الثمينة إلى خادمته الوفيّة أوكيكو، والتي كان اسمها يعني زهرة الأقحوان.

كانت أوكيكو تمضي أيّامها تمسح الغبار عن لوحات ثمينة محفوظة في غرفة سرّية. عشر لوحات كلٌّ منها مرصّعٌ بالأحجار الكريمة لا يقدَّر بثمن، وذات يوم وبينما كانت تنظّفها كعادتها أدركت برعب أنّ لوحةً واحدة قد اختفت. قلبها خفق كطبول العاصفة، فبحثت عنها في كل زاوية وركن، ولكن دون جدوى.

رعب الفقدان جعلها عاجزة عن مواجهة سيّدها. كانت تعلم أن مجرد الاشتباه بها سيجعلها فريسة لظنونه وجبروته، ولم تحتمل ثِقل الذنب ولا رُعب العقاب، فاختارت أن تغرق نفسها في البئر العميقة الواقعة خلف القصر... هناك حيث الماء البارد يحتفظ بالأسرار للأبد، ومنذ تلك الليلة الحزينة لم يعد القصر كما كان. إذ كانت روح أوكيكو تظهر مع كلّ مساء باكيةً نائحةً تُعدّ الطعام بصمتٍ كأنها لا تزال على قيد الحياة ثم تُعدّ بصوتٍ حزين الأطباق واللوحات: «واحدة... اثنتان... ثلاث... أربع... خمس... ست... سبع... ثمان... تسع...» ثم تطلق صرخةً حادّة كلّما اقترب غريبٌ من القلعة، كأنها تحذّره من المصير ذاته.

لم يحتمل النبيل هذا العذاب الليلي المتكرّر، فهجر القلعة، وتركها خاويةً، كئيبةً، ومنذ ذلك اليوم أصبح شبح أوكيكو حكايةً يهمس بها أهالي هيميجي عند المساء، ولم ينسَ أهل المدينة خادمتهم المخلصة، فامتنعوا عن زراعة الأقحوان احترامًا لذكراها، وكأنهم يتركون للزهور حقّ الحداد تمامًا كما فعلت أوكيكو حين خانها القدر.

٨) قصة كوي نو أوموني: في القصر الإمبراطوري كان هناك مزارع يعتني بزهور الأقحوان في حدائق القصر. وقع ذلك المزارع في حب امرأة نبيلة لكنها وضعت شرطًا غريبًا عليه: أن يحمل حزمة من صندوق الديباج (الحرير) ويتجوّل بها في الحديقة عدة مرات مقابل أن تحقق له أي رغبة يرغب فيها لكن الصندوق كان يحتوي على صخرة بدلاً من الحرير، وعندما حملها أصابه ضعف في قوته فلم يستطع الانتصاب، فمات من الغضب والإحباط، ولم تلبث المرأة النبيلة أن ندمت على فعلها هذا.

بما كان يُستخدم الأقحوان: 

١) كان يُعتقد أن وجود الأقحوان في الحديقة هو مكان لتلاقي الجنيات.
٢) في الصين يُستخدم الأقحوان كعشب في الطهي خاصةً في السلطات والشاي كما يُستعمل كعلاج عشبي لتخفيف الآلام، مثل الصداع، إذ يُعتقد أن جذوره تساعد على التخفيف من هذه الآلام، وتساهم في خفض نسبة سكر الدم، ولتكريم هذه الزهرة سُميت نسبةً لها مدينة تشو هسين الصينية، والتي تعني "مدينة الأقحوان".

٣) يُستخدم الأقحوان كشعار بارز في التيجان والسيوف والأزياء، وكذلك في الأختام الرسمية للإمبراطورية اليابانية كما يظهر رمز زهرة الأقحوان على أغلفة جوازات السفر اليابانية إذ ترمز هذه الزهرة إلى الإمبراطور والعائلة الإمبراطورية مجسدةً رمز السيادة والعزة.


 

 

٤) في الثقافة الفرنسية تشتري العائلات أوعيةً مملوءةً بزهور الأقحوان في أول نوفمبر وهو اليوم المعروف بيوم "لا توسان" (عيد جميع القديسين). يذهبون في هذا اليوم إلى المقابر ليزينوا قبور أقاربهم بأزهار الأقحوان (ترتبط بالجنازات وترمز إلى الخلود) لذلك يُعتبر تقديم الأقحوان في أي مناسبة اجتماعية أخرى أمرًا غير لائقٍ ومرفوض كونه مرتبطًا بالموت حيث يُستخدم في الجنازات، ويُعد زهرةً للقرابين في المعابد البوذية.

٥) في دول شرق آسيا ترمز زهرة الأقحوان إلى الولادة من جديد لذا تُعتبر هدية مميزة في أعياد الميلاد.
٦) في أستراليا تُهدى زهرة الأقحوان للأمهات في عيد الأم تعبيرًا عن الحب والتقدير.

ما هو مهرجان زهرة الأقحوان (تشويو نو سيكو أو كيكو نو سيكو):
يُعرف مهرجان الأقحوان أيضًا باسم "مهرجان السعادة"، ويُقام تقريبًا في التاسع من سبتمبر من كل عام. خلال هذا الحدث يقدم الناس الصلوات لزهرة الأقحوان من أجل صحة جيدة وشباب أبدي وتعزيز طول العمر في الطقوس التقليدية يُوضع القطن فوق ندى زهرة الأقحوان ثم يُمسح به على الجسم حيث يُعتقد أنه يدرء الأرواح الشريرة و يطهر الرأس والعينين مما يساعد على تحسين النظر والحماية من الكوارث كما يُقطف الأقحوان للتزين به أو لصنع "نبيذ الأقحوان"، وهو مشروب مكوّن من ساكي مخلوط ببتلات الزهرة التي تطفو على سطحه.

ما هو أصل مهرجان الأقحوان؟ 

١) يُروى في الصين أن الطاوي "فاي" قد نبّه تلميذه "هينججينغ" إلى أن كارثة عظيمة تتمثل في طاعون مميت ستحل في التاسع من سبتمبر في منطقتهم، وأوصاه بأن ينجو هو وعائلته من هذه المصيبة عبر الخروج في نزهة إلى مكان مرتفع، وشرب نبيذ الأقحوان لدرء الشر والكوارث. بعد سماع هذه النبوة انطلق هينججينغ لتنفيذ الأمر،  فأخبر القرويين واصطحب عائلته في النزهة، وعندما عادوا إلى منازلهم وجدوا أن جميع دجاجاتهم وكلابهم قد ماتت بشكل عنيف. انتشر هذا الحدث بين الناس، ومنذ ذلك الحين أصبح التسلق إلى الأماكن العالية وشرب نبيذ الأقحوان خلال مهرجان الأقحوان عادة شعبية متوارثة عبر الأجيال.

٢) يُروى أنه في عهد أسرة هان انتشر بين الناس خبرٌ عن قريةٍ في مقاطعة نيكسينغ حيث كانت الأسر تشرب من ينبوع جبلي تتناثر فوقه بتلات زهرة الأقحوان، فتشبع الماء برائحتها الزكية، وبفضل شرب هذا الماء عاش أهل القرية قرابة مئة وثلاثين عامًا، فانطلقت العادة بين الناس بعد ذلك أن يشربوا من هذا الماء في التاسع من سبتمبر تيمّنًا بطول العمر ودوام الصحة.

٣) أسطورة صينية (جنية الأقحوان): يُحكى أن مزارعًا يُدعى نيو كان يعيش في فقر مع والدته النساجة بعدما توفي والده عندما كان في عمر السابعة. اعتمد نيو على نسج والدته كمصدر رزق لهما للبقاء لكن بسبب الظروف الصعبة التي مرت بها والدته كانت غالبًا ما تبكي بحسرة، وتمتلئ عيناها بالدموع.

وعندما بلغ نيو الثالثة عشرة قال لوالدته بحنان: «يا أمي نظرك قد ضعف جدًا كفى غزلًا ونسيجًا في الليل والنهار لقد كبرتُ وأستطيع أن أعيلكِ الآن» فأقاما معًا في مزرعة رجل غني حيث عاشا بصبر ومثابرة لكنّ مرض العينين لدى والدته تفاقم حتى أعمى بصرها فقال نيو لنفسه: «أمي عمياء بسببي، وسأشفي عينيها مهما كلفني الأمر» فعمل نهارًا وليلًا يقصّ الأجزاء الذابلة ويزرع الخضروات، ويبيعها ليجمع ثمن العلاج لكن رغم كل ما قدم لم تتحسن عينا والدته، وفي ليلة من الليالي حلم نيو بفتاة جميلة تساعده في المزرعة وتخبره بسرٍّ عجيب: «بعيدًا غربًا على بعد أميال توجد بركة صغيرة تزهر فيها أقحوانة بيضاء زهرة لا تفتح إلا في التاسع من سبتمبر مغليها يشفي عيني والدتك بلا ريب» وفي ذلك اليوم انطلق نيو يبحث عن الأقحوان الأبيض، وجد الأصفر ثم وجد بين الأعشاب الصغيرة زهرة بيضاء نثرها وحماها بيديه وبعد رعايتها بصدق أزهرت سبع زهور قطف واحدة كل يوم، وغلى بتلاتها، فشربت والدته منها، وابتدأ بصرها يعود إلى النور بعد سبعة أيام. 

ذاع خبر زهرة الأقحوان وعُرفت بقدرتها على شفاء العيون، وجاء الناس من القرى المجاورة لزيارتها حتى وصل الخبر إلى صاحب المزرعة الغني أمر بإزالة الزهرة لكن نيو رفض، فاندلع القتال، وقُطعت الزهرة، وبكى نيو حتى أتى الليل، فحلت الفتاة الجميلة من حلمه وقالت له: «لقد كُوفيت جزاءً لطاعتك لأمك لا تحزن عد للنوم» سألها نيو: «كيف لي أن أنام والأقحوان الذي أنقذ أمي قد قُطع؟» قالت له: «لا تخف فقط اقتطع الساق، والجذر باقٍ، إذا زرعت الجذر في مكان آخر سينمو من جديد» تمنى نيو أن يعرفها، فقالت له: «أنا جنية الأقحوان جئت لمساعدتك لا حاجة للشكر فقط عليك ترديد الأغنية التي تنمو بها الأقحوان: رأس مسطح ثلثي وأربع يصب الماء على الرأس في مايو، ويرمى رأس المادة في يونيو، ويغطي الرأس سبعة أو ثمانية، ويلف الكوبية في سبتمبر» عاد نيو لمنزله درس الأغنية بعناية، وفهمها: يُزرع الأقحوان في مارس، تُقص الرؤوس في أبريل، يسقى ويُخصب في مايو ويونيو ثم تُحمى الجذور في أغسطس، لتزهر زهرة الأقحوان في سبتمبر على شكل كوبٍ بديع.

بات نيو يزرع الأقحوان، وينقل معرفته للفقراء في قريته، وبما أنه وجد الزهرة في التاسع من سبتمبر سُمي هذا اليوم بمهرجان الأقحوان رمزًا للأمل والحياة والشفاء.

ما هو أصل زهرة الأقحوان؟ زهرة الأقحوان أو كما تُعرف في لغتها الأم "كوكو" تعود جذورها العريقة إلى الصين حيث استُخدمت في الطب التقليدي، وشُبهت بالحكمة وطول العمر، وفي فترة هييآن (٧٩٤–١١٨٥م) انتقلت هذه الزهرة إلى اليابان عبر التبادل الثقافي والبوذي بين البلدين، وهناك تغيّر اسمها إلى "كيكو"، وهو اسم مشتق من كلمة "كيماوارو"، والتي تعني "الشيء الذي ينتهي" أو "الخاتمة" في إشارة إلى كون الأقحوان آخر زهرة تتفتح في السنة، فتُغلق بها الطبيعة دورتها، وتتهيأ للسبات الشتوي.

هل الأقحوان زهرة نحس أو سوء طالع؟ لا زهرة الأقحوان ليست زهرة شؤم لكنها ارتبطت في المخيلة الشعبية في بعض الثقافات، ولا سيما في اليابان بفكرة الموت والحزن، والسبب يعود إلى استخدامها كقربان في الجنازات والمقابر إذ تُقدَّم زهور الأقحوان البيضاء عادةً تكريمًا لأرواح الموتى، ولهذا فإن إهداء زهرة أقحوان لشخص حيّ قد يُفسَّر على أنه تلميحٌ غير سار أو تمنيٌ بالموت، وهو ما يجعل البعض يشعر بعدم الارتياح من تلقيها كهدية.

لماذا تُستخدم زهور الأقحوان في الديانة البوذية؟ في الديانة البوذية تُقدَّم زهور الأقحوان ضمن الطقوس التعبدية كقربان نقيّ وهادئ يرمز إلى التجرُّد، والزوال، والصفاء الروحي، ولأن البوذية ترى أن الجمال لا يكتمل إلا إذا كان مؤقتًا، فإن زهرة الأقحوان التي تتفتح في نهاية السنة وتذبل سريعًا تُجسِّد هذه الفلسفة الروحية.

هل زهرة الأقحوان سامة؟ نعم تُعدّ زهرة الأقحوان زهرة سامة لكن درجة سُميّتها تختلف بحسب نوعها و استخدامها فبعض أنواع الأقحوان تحتوي على مركبات تُستخدم في صناعة المبيدات الحشرية الطبيعية مثل البيريثرين، وهي مادة قد تُسبّب الحكّة، أو التهابات الجلد، أو تهيّج العينين عند لمسها أو التعرّض المفرط لها، ومع ذلك توجد أنواع أُخرى من الأقحوان أقل سُميّة، بل ويُمكن استهلاكها بشكلٍ آمن إذا أُخذت بكميات معتدلة ومن هذه الأنواع تُحضّر مغلي زهرة الأقحوان المعروف في الطب الصيني التقليدي، ويُستخدم كـشاي مُهدئ يُقال إنه يُساهم في تخفيف التوتر وتحسين الرؤية وتبريد حرارة الجسد.

📝 بقلمي (سُبْحَانَكَ اللهُـمّ وَبِحَمْدِكَ ،أشهد أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال