حكاية الأمير السعيد وطائر السنونو

هي حكاية خرافية قصيرة نُشرت عام ١٨٨٨م للمؤلف الأيرلندي "أوسكار وايلد" ضمن مجموعة قصصية للأطفال تتضمن قيمًا أخلاقية عديدة كالتضحية والإيثار، فما هي حكاية "الأمير السعيد وطائر السنونو"؟ هذا ما سنتعرف إليه في هذه المقالة.

في موضعٍ عالٍ فوق المدينة، وعلى عمودٍ طويل كان تمثال الأمير السعيد منتصبًا مطليًّا بالكامل برقائق الذهب الخالص، ومرصَّعًا بحجري زفير برَّاقين في موضع العينين بينما تتلألأ على مقبض سيفه ياقوتةٌ حمراء كبيرة.

كان التمثال محطَّ إعجابٍ شديد، فقد علَّق أحد أعضاء مجلس المدينة الذي كان يرغب في أن يُشتهر بتذوُّقه الفني قائلًا: «إنه يُضاهي دوَّارة الرياح جمالًا» ثم أضاف خشية أن يحسبه الناس غير عملي، وهو في الحقيقة ليس كذلك قائلًا: «ولكنه لا يضاهيها فائدة»، وسألت أمٌّ عاقلةٌ ولدها الصغير الذي كان يطلب طلبات غير معقولة قائلة:
«لِمَ لا تكون مثل الأمير السعيد؟ إنه لا يحلم أبدًا بالحصول على أي شيء»، وتمتم رجلٌ مُحبَط، وهو يُحدِّق إلى التمثال الرائع قائلًا: «يَسُرُّني أن يكون في هذا العالم شخصٌ سعيدٌ إلى هذا الحد» أما أطفال المؤسسة الخيرية، فقد قالوا وهم يخرجون من الكاتدرائية مرتدين عباءاتهم القرمزية الزاهية ومراييلهم البيضاء النظيفة: «إنه يبدو تمامًا كملاك» فسألهم أستاذ الرياضيات: «كيف تعرفون ذلك، وأنتم لم تَرَوْا ملاكًا من قبل؟» فردّ الأطفال قائلين: «أوه! ولكننا رأيناهم في أحلامنا» فعبس الأستاذ، وبدا شديد الصرامة إذ لم يكن يستحسن أن يحلم الأطفال.

في إحدى الليالي حَلَّق فوق المدينة طائر سنونو صغير أصدقاؤه قد غادروا إلى مصر قبل ستة أسابيع لكنه تخلَّف عنهم لأنه كان مُغرَمًا بنبتة القيصوب الأجمل على الإطلاق.
قابلها في بداية الربيع بينما كان يطير مع مجرى النهر مُطاردًا فراشة صفراء كبيرة. انجذب إلى خَصر النبتة النحيل حتى إنه توقَّف ليتحدث إليها قائلاً: «هل لي أن أُحبكِ؟» هكذا قال السنونو الذي كان يحب الدخول في صُلب الموضوع مباشرة، وانحنت له نبتة القيصوب انحناءً كبيرًا، فطار السنونو حولها في دوائر، ولمس الماء بجناحيه مُحدثًا تموُّجات فضية على صفحته. كانت هذه مغازلته لها، والتي استمرت طوال فصل الصيف.

غرَّدت بقية طيور السنونو قائلة: «إنها علاقة سخيفة، فهي لا تملك مالًا، ولها علاقات كثيرة للغاية»، وبالفعل كان النهر يعجُّ بنباتات القيصوب، وعندما حلَّ الخريف طارت جميعها بعيدًا.

 The Happy Prince (Text + Audio)

شعر السنونو بالوحدة بعدما طارت كل الطيور بعيدًا، وبدأ يسأم من معشوقته فقال: «إنها لا تتحدث أبدًا، وأخشى أن تكون لعوبة، فهي دائمًا ما تغازل الريح»، وبطبيعة الحال كانت النبتة تنحني برشاقة أخَّاذة كلما هبَّت الرياح.

تابع السنونو قائلًا: «أعترف أنها تفضّل حياة الاستقرار لكنني أحب السفر والتتبّع، ولا بد أن تحب زوجتي السفر أيضًا» فقال لها أخيرًا: «هل تأتين معي؟» لكن نبتة القيصوب هزّت رأسها إذ كانت شديدة التعلّق بموطنها.
صاح السنونو قائلًا: «لقد كنت تعبثين بي! سأرحل إلى الأهرامات وداعًا» وطار بعيدًا.

ظلّ يطير طوال اليوم، وبحلول الليل وصل إلى المدينة. قال السنونو: «أين سأبيت ليلتي؟ آمل أن تكون المدينة قد اتخذت الاستعدادات اللازمة» ثم رأى التمثال على العمود الطويل فصاح قائلاً: «سأبيت هنا، إنه موقع جيد فيه الكثير من الهواء النقي» وحطّ بين قدمي الأمير السعيد.

حدَّث نفسه بهدوء وهو ينظر حوله قائلاً: «لديَّ غرفة نوم ذهبية» واستعد للخلود إلى النوم، ولكن في اللحظة التي كان فيها يضع رأسه أسفل جناحه سقطت عليه قطرة ماء كبيرة فصاح: «يا له من أمر غريب! لا توجد سحابة واحدة في السماء، والنجوم واضحة وساطعة لكنها تمطر رغم ذلك الطقس في شمال أوروبا مُرِيع حقًا. اعتادت نبتة القيصوب أن تُحب المطر إلا أن ذلك كان أنانية منها فقط» ثم سقطت قطرة أخرى فقال: «ما نفع التمثال إن لم يقِ / يحمي من المطر؟ لا بد أن أبحث عن أنبوب مدخنة جيد» عزم على أن يطير بعيدًا، ولكن قبل أن يبسط جناحيه سقطت قطرة ثالثة نظر إلى الأعلى، ورأى... أوه! ما الذي رآه؟

كانت عينا الأمير السعيد مغرورقتين بالدموع، والدموع تنهمر على وجنتيه الذهبيتين. كان وجهه شديد الجمال في ضوء القمر حتى إن السنونو الصغير شعر نحوه بالشفقة.

سأله السنونو قائلاً: «من أنت؟» فرد التمثال: «أنا الأمير السعيد.» فسأله السنونو: «و لماذا تبكي إذن؟ لقد أغرقتني تمامًا بالماء» أجاب التمثال قائلاً: «عندما كنت حيًّا ولي قلب بشري لم أعرف كلمة الدموع لأنني عشت في قصر سان سوسي حيث لا يُسمح للحزن بدخوله. في النهار كنت ألعب مع رفاقي في الحديقة، وفي المساء أقود حفلات الرقص في القاعة الكبرى، وكان يحيط بالحديقة جدار عالٍ للغاية، ولكنني لم أهتم قط بالسؤال عمّا يقع خلفه. كل ما يخصني كان شديد الجمال، ولقّبتني حاشيتي بالأمير السعيد ، وكنت بالفعل سعيدًا. إن كانت المتع تعني السعادة هكذا عشت وهكذا متُّ، والآن ها قد وضعوني هنا على ارتفاع شاهق بعد موتي حيث صرت أرى قبْح مدينتي وكل شقائها، و على الرغم من أن قلبي مصنوع من الرصاص، فلا أملك خيارًا سوى البكاء» قال السنونو محدّثًا نفسه: «ماذا! أليس مصنوعًا من الذهب الخالص؟» كانت لباقة السنونو تمنعه من إبداء أي ملاحظات شخصية.

تابع التمثال حديثه بصوتٍ موسيقي خفيض: «بعيدًا بعيدًا في شارع صغير يوجد منزل فقير إحدى نوافذه مفتوحة، ومن خلالِها أرى امرأة جالسة على الطاولة، وجهُها نحيل ومنهك، ويداها محمرتان خشنتان تغطيهما وخزات الإبرة، وذلك لأنها تعمل حائكة إنها تُطرّز زهور الآلام على ثوب من الساتان لأجمل وصيفات الملكة كي ترتديه في الحفل الملكي الراقص القادم، وفي سريرٍ في زاوية الغرفة يستلقي ولدها الصغير مريضًا إنه يعاني من الحمى ويطلب بعض البرتقال، ولكن ليس لديها ما تمنحه سوى مياه النهر، و لذلك فهو يبكي أيها الطائر، يا طائر السنونو، أيها السنونو الصغير هل يمكنك أن تنتزع الياقوتة من مقبض سيفي وتجلبها إليها؟ قدماي مثبتتان في هذه القاعدة ولا يمكنني التحرك»، فقال السنونو: «أصدقائي ينتظرونني في مصر، وهم يطيرون مع مجرى نهر النيل صعودًا وهبوطًا ويتحدثون مع زهور اللوتس الكبيرة سيخلدون للنوم قريبًا في مقبرة الملك العظيم يقبع الملك نفسه هناك داخل تابوته المزينة ملفوف بكَتّان أصفر و مطيّب بالعطور حول رقبته سلسلة من أحجار اليشم الخضراء الفاتحة ويداه كأوراق الأشجار الذابلة» قال الأمير: «أيها السنونو، يا طائر السنونو الصغير هل يمكنك أن تبقى معي ليلة واحدة وتكون رسولي؟ إن الصبي عطشان للغاية، والأم تشعر بحزن بالغ».

أجاب السنونو قائلاً: «لا أعتقد أنني أحب الأولاد، ففي الصيف الماضي عندما كنت أقيم على النهر كان هناك ولدان وقحان ابنا الطحان، وكانا يرشقاني بالحجارة دائمًا لم يصيباني قط بالطبع، فنحن طيور السنونو نطير ببراعة شديدة فلا تصيبنا الحجارة، وإلى جانب ذلك فأنا أنحدر من عائلة تُشتهر بخفة الحركة، ومع ذلك فهذا الفعل كان علامة على عدم الاحترام».

لكن الأمير السعيد بدا شديد الحزن حتى إن السنونو الصغير رثى لحاله وقال: «إن الطقس شديد البرودة هنا، ولكنني سأبقى معك ليلة واحدة وسأكون رسولك» فقال الأمير: «أشكرك أيها السنونو الصغير» وهكذا التقط السنونو الياقوتة مُخرجًا إياها من سيف الأمير، وطار بعيدًا فوق أسطح المدينة وهو يحملها في منقاره.

مرّ ببرج الكاتدرائية المنحوت عليه الملائكة الرخامية البيضاء، ومرّ بالقصر وسمع أصوات الرقص. خرجت فتاة جميلة إلى الشرفة مع حبيبها الذي قال لها: «كم هي رائعة تلك النجوم! وكم هي رائعة قوة الحب!» أجابت: «آمل أن يكون ثوبي جاهزًا لحفلة البلاط الملكي في الوقت المناسب لقد أمرتُ أن تُطرّز عليه زهور الآلام، ولكن الحائكات كسولات جدًّا».

مرَّ فوق النهر ورأى الفوانيس معلَّقة على صواري السفن، ومَرَّ بحي اليهود حيث رأى كبار السنّ يتساومون ويُزنون النقود على موازين نحاسية، وأخيرًا وصل إلى المنزل الفقير، فنظر إلى الداخل، فرأى الصبي يهتزُّ من الحمى على سريره، والأم قد غالبها النوم من شدة التعب. حجلَ السَّنَوْنو ثمَّ وثب داخل المنزل، ووضع الياقوتة الكبيرة على الطاولة بجانب كشتبان المرأة ثم طار برقَّة حول السرير، وهو يُحرّك الهواء على جبهة الصبي بجناحيه فقال الصبي: «كم أشعر ببرودة منعشة لا بد أنني أتحسّن» ثم استغرق في نوم هانئ.

ثُمَّ طار السَّنَوْنو إلى الأمير السعيد وأخبره بما فعل، وعلَّق قائلاً: «إنهُ أمرٌ غريب، ولكنني أشعر الآن بدفءٍ شديدٍ رغم أن الجوَّ باردٌ جدًا» فقال الأمير: «ذلك لأنك قُمْت بصنيع طيِّب» بدأ السَّنَوْنو الصغير يفكّر ثم غفا، فدائمًا ما كان التفكيرُ يُثقل جفونه ويُشعِره بالنُّعاس.

عند بزوغ الفجر طار السَّنَوْنو هابطًا نحو النهر ليتحمَّم. مرَّ أستاذ علم الطيور وهو يعبر الجسر فصاح قائلاً: «يا لها من ظاهرة رائعة طائر السَّنَوْنو في الشتاء!» عاد إلى بيته وكتب مقالًا طويلًا للصحيفة المحلية اقتبس منه الجميع لكنه كان مليئًا بالكلمات الصعبة التي لم يستطع أحد فهمها.

قال السَّنَوْنو: «الليلة سأذهب إلى مصر» وكانت معنوياته مرتفعة إذ كان يتطلع لهذا الأمر بشوق.
زار السَّنَوْنو كل المعالم الأثرية العامة، واستقر مدةً طويلة على قمة برج الكنيسة، وكلما ذهب كانت العصافير تُزقزق وتقول لبعضها البعض: «يا له من غريب متميز!» فكان يشعر بسعادة كبيرة بنفسه.

عندما صار القمر عاليًا في السماء طار السَّنَوْنو عائدًا إلى الأمير، وصاح قائلًا:
«هل تريد أن أنفذ لك أي مهمة في مصر؟ سأشرع لتوي في رحلتي» قال الأمير: «أيها السَّنَوْنو، يا طائر السَّنَوْنو الصغير هلّا تبقى معي ليلةً أخرى؟» فأجاب السَّنَوْنو: «أصدقائي ينتظرونني في مصر غدًا سيطيرون إلى شلال النيل الثاني حيث ينام فرس النهر بين نباتات البردي بينما يجلس الإله ممنون على عرش جرانيتي كبير يراقب النجوم طوال الليل، وعندما تتألّق نجمة الصباح يطلق صيحة فرح واحدة ثم يصمت، و عند الظهيرة تهبط الأسود الصفراء إلى حافة الماء لتشرب. إن لها عيونًا خضراء كالزبرجد، وزئيرها أعلى من هدير الشلالات» قال الأمير: «أيها السَّنَوْنو، يا طائر السَّنَوْنو الصغير بعيدًا في الطرف الآخر من المدينة أرى شابًا في عُلِّيَّة أحد المنازل يجلس محنيًا على مكتب مغطّى بالأوراق، وبجانبه كوب وصحبة من ورود بنفسج ذابلة، وشعره بني مموج، وشفاهه في حُمرة الرمان، وعيناه كبيرتان حالمتان إنه يحاول الانتهاء من كتابة مسرحية يعدها للمخرج المسرحي لكنه يشعر ببرد شديد يعوقه عن متابعة الكتابة. لا توجد نار في الموقد، وقد فقد وعيه من الجوع».

قال السَّنَوْنو الذي كان حقًّا ذا قلب طيِّب: «سأبقى معك ليلةً واحدةً أخرى هل آخذ له ياقوتةً أخرى؟» قال الأمير: «مع الأسف! لم يعد لديَّ ياقوت كل ما تبقى لديَّ هو عينايّ
إنهما مصنوعتان من حجر الزفير النادر الذي جلب من الهند قبل ألف عام. اقتلِع واحدةً منهما وخذها إليه سيبيعها للصائغ، ويشتري طعامًا وحطبًا، وينتهي من كتابة مسرحيته» قال السَّنَوْنو: «لا يمكنني فعل ذلك يا عزيزي الأمير» وشرع في البكاء.

قال الأمير: «أيها السَّنَوْنو، يا طائر السَّنَوْنو الصغير أفعل ما آمُرك به».

اقتلع السَّنَوْنو عين الأمير وطار بعيدًا متجهًا نحو العُلِّيَّة التي يسكن فيها الطالب. كان من السهل دخولها إذ كان يوجد ثقب في السقف اندفع من خلاله داخلًا إلى الغرفة. كان الشاب يدفن رأسه بين يديه، فلم يسمع رفرفة جناحي الطائر، وعندما رفع رأسه وجد حجر الزفير الرائع فوق زهور البنفسج الذابلة فصاح قائلًا: «لقد بدأتُ أصبح موضع تقدير! لا بد أن هذهِ من معجبٍ كبير. الآن يمكنني أن أنهي مسرحيتي» وبدا في غاية السعادة.

في اليوم التالي طار السَّنَوْنو إلى الميناء، وجلس على صاري إحدى السفن الكبيرة ذلك العمود الذي يُشد به الشراع.
راقب البحارة وهم يسحبون صناديق ضخمة من مستودع السفينة بواسطة الحبال كانوا يصيحون بصوت عالٍ مع خروج كل صندوق: «هيلا هوب!» صاح السَّنَوْنو قائلاً: «أنا ذاهب إلى مصر!» لكن لم يلتفت إليه أحد، ولم يُبدِ البحارة أدنى اهتمام، وعندما صار القمر عاليًا في السماء طار عائدًا إلى الأمير السعيد.

صاح السَّنَوْنو قائلًا: «جئتُ لأودِّعَك!» فردَّ الأمير: «أيُّها السَّنَوْنو، يا طائر السَّنَوْنو الصغير هلَّا تبقى معي ليلةً أُخرى؟» أجاب السَّنَوْنو قائلًا: «إنَّنا في فصل الشتاء، وقريبًا ما ستحلُّ هنا الثلوج الباردة أما في مصر فالشمس تبعث الدفء على أشجار النخيل الخضراء، وتستلقي التماسيح في الطين، وتنظر حولها في كسل، ويبني أصدقائي عشًّا في معبد بعلبك، ويراقبهم الحمام الوردي والأبيض، ويصدر هديلًا لبعضه الآخر لا بُدَّ أن أتركك يا عزيزي الأمير، ولكنني لن أنساك أبدًا، وفي الربيع القادم سأعود إليك جالبًا جوهرتين جميلتين بدلًا من هاتين اللتين فقدتهما. ستكون الياقوتة التي سأُحضِرها لك أشدَّ حُمرةً من الورود، وسيكون حجر الزفير في زرقة البحر الكبير».

قال الأمير السعيد: «في الميدان بالأسفل تقف فتاة صغيرة تبيع الثقاب لقد وقع الثقاب منها في البالوعة، وتلفُّ كله سيضربها أبوها إن لم تجلب بعض المال إلى المنزل، وها هي تبكي إنها لا تملك حذاءً ولا جوارب طويلة، ورأسها الصغير حاسر. اقتلع عيني الأخرى وأعطها لها حتى لا يضربها والدها» قال السَّنَوْنو: «سأبقى معك ليلةً واحدةً أُخرى، ولكن لا يمكنني اقتلاع عينك ستُصبح أعمى إن فعلتُ ذلك» قال الأمير: «أيها السَّنَوْنو، يا طائر السَّنَوْنو الصغير أفعل ما آمُرك به».

وهكذا اقتلع السَّنَوْنو عين الأمير، واندفع طائرًا نحو الأرض يحمل بين جناحيه جوهرة النور، مرَّ سريعًا أمام الفتاة الصغيرة، ودسَّ الجوهرة خلسةً في كفّ يدها الصغيرة. صاحت الفتاة بفرح: «يا لها من قطعة زُجاجٍ جميلَة!» وثم ركضت إلى البيت تضحكُ كما لو أن الدنيا بأسرها تبتسمُ لها.

ثم عاد السنونوُ إلى الأميرِ بصوتٍ خافتٍ كهمس الريحِ الباردة قال: «لقد أصبحت أعمى الآن فسأبقى معك للأبدِ» فأجابه الأمير المسكينُ: «لا أيها السنونو الصغير لابد أن تذهب إلى مصرَ حيث الدفء والضياء» رد السنونو بإصرار القلب الولهان: «سأبقى معك للأبدِ» ثمّ نامَ عند قدمي الأمير يحرسهُ بصمتهِ وسكونهُ كأنما يهمس: «ها هنا وُجد الوفاء حتى في عتمة العينين».

جلس السَّنَوْنو طوال اليوم التالي على كتف الأمير، وقصَّ عليه حكايات عمَّا شاهده في الأراضي الغريبة. أخبره عن طيور أبي منجل الحمراء التي تصطف في صفوف طويلة على ضفاف النيل تلتقط السمك الذهبي بمناقيرها، وعن أبو الهول، وعن قدماء العالم الذين يعيشون في الصحراء ويعلمون كل شيء، وعن التجار الذين يمشون ببطء إلى جانب جمالهم حاملين حبات الكهرمان في أيديهم، وعن ملك جبال القمر ذي البشرة السوداء كخشب الآبنوس الذي يعبد بلورة كبيرة، وعن الثعبان الأخضر الضخم الذي ينام في نخلة ويتولى إطعامه عشرون كاهنًا بكعك العسل، وعن الأقزام الذين يبحرون في بحيرة كبيرة على أوراق مسطحة ضخمة، ودائمًا في حالة حرب مع الفراشات.

قال الأمير: «يا عزيزي السَّنَوْنو الصغير إنك تحكي لي عن أشياء مدهشة، ولكن ما يدهشني أكثر من كل ذلك هو معاناة الرجال والنساء. لا يوجد لغز أعظم من البؤس. طِر فوق مدينتي أيها السَّنَوْنو الصغير، وأخبرني بما تراه هناك».

وهكذا طار السَّنَوْنو فوق المدينة الضخمة، وشاهد الأغنياء يمرحون في بيوتهم الجميلة بينما كان المتسولون جالسين عند البوابات ثم طار في الأزقة المظلمة، ورأى الوجوه البيضاء الشاحبة للأطفال الجائعين، وهي ترمق الشوارع المظلمة بوهنٍ ووجل، وأسفل قنطرة أحد الجسور كان صبيان صغيران يرقُدان يحتضن أحدهما الآخر محاولين أن يُبقيا الدفءَ في جسديهما قالا: «كم نحن جائعان!» فصاح الحارس قائلًا: «لا يجوز لكما الاستلقاء هنا!» فخرجا هائمين على وجهيهما في المطر ثم طار السَّنَوْنو عائدًا إلى الأمير، وأخبره بما رآه.

فقال الأمير: «أنا مغطَّى بالذهب الخالص لا بد أن تُنزعه عني رقاقة تلو الأخرى، وتعطيه لفقراء قومي، فدائمًا ما يظنُّ الأحياء أن الذهب يمكن أن يجعلهم سعداء».
التقط السنونو رقاقات الذهب الخالص منتزعًا إياها واحدة تلو الأخرى حتى بدا الأمير السعيد باهتًا ورماديًا للغاية ثم أعطى الفقراء رقاقة تلو الأخرى من الذهب الخالص، فتوردت وجوه الأطفال، وامتلأت بالضحك والفرح، ولعبوا في الشارع، وهللوا قائلين: «لدينا خبز الآن!»

ثُمَّ جاءَ الثلجُ ومن بعدِهِ حلَّ الصقيعُ وبدَتِ الشوارعُ كأنَّها مصنوعةٌ من الفضةِ إذ كانت شديدةَ الإشراقِ واللمعانِ بينما تدلَّت كُتل ثلجيةٌ طويلة كأنَّها خناجرُ بلورية من أفاريزِ المنزلِ، وكان الجميعُ يتحركون هنا وهناك وهم يرتدون الفراءَ، وارتدى الصبيةُ الصغارُ قبعاتٍ قرمزيةً وتزلجوا على الجليدِ.

ازدَادَ شعورُ السَّنَوْنو الصغير المسكين بالبرودة أكثر فأكثر، ولكنه لم يكن ليترك الأمير، فقد كان يحبّه كثيراً. كان يلتقط الفتات من أمام باب الخبّاز عندما لا يكون منتبهاً، و يرفرف بجناحيه محاولاً أن يبقي نفسه دافئاً، ولكنه عرف في النهاية أنه سوف يموت. كان يمتلك من القوة ما يكفي بالكاد ليطير مرتفعاً إلى كتف الأمير مرةً واحدةً أخرى. همهم السَّنَوْنو قائلاً: «وداعاً عزيزي الأمير! هل تسمح لي بتقبيل يدك؟» فقال الأمير: «أنا سعيد لأنك ستذهب إلى مصر أخيراً، أيها السَّنَوْنو الصغير لقد مكثت هنا طويلاً، و لكن يجب أن تُقبّلني على شفتيّ لأنني أحبّك» قال السَّنَوْنو: «لست ذاهباً إلى مصر، بل إلى دار الموت، الموت هو شقيق النوم أليس كذلك؟!» وقبّل الأمير السعيد على شفتيه، وسقط ميتاً عند قدميه. في تلك اللحظة صدر صوت تصدّعٍ غريب داخل التمثال كما لو أن شيئاً ما قد انكسر. الحقيقة أن القلب الرصاصي قد انشق نصفين إذ كان بلا شك صقيعاً لا يُحتمل.

باكرًا صباح اليوم التالي كان العمدة يسير في الميدان بالأسفل مع أعضاء مجلس المدينة، وعندما مروا بالعمود نظر إلى الأعلى نحو التمثال وقال: «يا إلهي! كم يبدو الأمير السعيد مهترئًا!» فصاح أعضاء مجلس المدينة الذين كانوا دائمًا يوافقونه الرأي قائلين: «إنه مهترئ بالفعل» ثم ساروا نحو التمثال ليتفحصوه.

قال عمدة المدينة: «لقد سقطت الياقوتة من سيفه واختفت عيناه، ولم يعد ذهبيًا إنه يبدو أفضل بقليل من الشحاذين!» ردّد أعضاء مجلس المدينة قائلين: «أفضل بقليل من الشحاذين!» أردف العمدة قائلًا: «وها هو طائر ميت عند قدميه في الواقع لا بد أن نصدر بيانًا يفيد بأنه ليس مسموحًا للطيور أن تموت هنا» دوّن أمين سر المدينة ملاحظة باقتراحه، ومن ثم هدموا تمثال الأمير السعيد، وقال أستاذ الفنون بالجامعة: «ما دام لم يعد جميلًا، فإنه لم يعد مفيدًا» بعد ذلك صهروا التمثال في الفرن، وعقد العمدة اجتماعًا لمجلس البلدية لتقرير ما سيُفعل بالمعدن، وقال: «لا بد أن يكون لدينا تمثال آخر بالطبع، وسوف يكون تمثالي أنا» فقال كل واحد من أعضاء مجلس المدينة وهم يتشاجرون: «بل لي!» وكان آخر ما سمعته عنهم أنهم ما زالوا يتشاجرون.

قال مشرف العمّال في مَسْبَك المعادن: «يا له من أمرٍ غريب! هذا القلب الرصاصيّ المكسور لا يذوب في نيران الفرن لا بدّ أن نتخلّص منه» فألقَوه على كومةٍ من الغبار حيث كان السّنونو الميت يرقد أيضًا ثم قال الربّ لأحد ملائكته: «أحضِر لي أثمن شيئين في المدينة» فأحضر له الملاك القلب الرصاصيّ والسّنونو الميت فقال الربّ: «لقد أحسنتَ الاختيار هذا الطائر الصغير سيُغرّد في حدائق جنّتي إلى الأبد، وسيسبّح لي الأمير السعيد في مدينتي الذهبيّة».

ما المغزى أو العبرة المستفادة من حكاية "الأمير السعيد"؟

١) يجب على من لديه خير وفير أن يُساعد المُحتاجين.

٢) السعادة الحقيقية تتحقق بالتعاطف والمشاركة (العطاء) لتخفيف معاناة الآخرين.

٣) لا يمكن أن يتغير المجتمع بالتضحيات الفردية وحدها يجب أن تكون تضحيات جماعية.

** يُمكنك التعرف على قصر سانس سوسي الذي ذُكر في الحكاية السابِقة من هُنا

📝 بقلمي (اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال