اعتاد التاريخ أن يشهد ملوكًا عظماء شيّدوا قصورهم بأيديهم في ما مضى إمّا بفرض رؤاهم على المعماريين، أو بمنحهم حرية الإبداع في التصميم شرط أن تعكس القصور هيبة المالك، وقوته، ونفوذه لذا أبدع العديد من المصممين في إعمار القصور كتحفٍ فنيّة تمزج بين جمال الطبيعة وروح الثقافة الملكية، فغدت مشاهد تُضاهي الخيال، ولوحاتٍ معمارية لا تُنسى، وفي هذه المقالة سنتعرف على أحد أجمل القصور الأوروبية، وهو قصر سان سوسي الألماني (شلوس سانسوسي) الذي يُعدّ وجهةً لملايين السيّاح من مختلف أنحاء العالم سنويًا.
أين يقع قصر سان سوسي؟ يقع قصر سان سوسي شمال غرب مدينة بوتسدام في ولاية براندنبورغ الألمانية، ويُعدّ من أبرز معالمها التاريخية والسياحية.
من بنى قصر سان سوسي؟ عام ١٧٤٤م وضع الملك فريدريك الثاني (فريدريك العظيم) بنفسه التصور الأولي لتصميم قصره، ورسم تخطيطه بيده، وفي العام التالي كلّف المهندس المعماري جورج فينزل هاوس فون كنوبلسدورف بتنفيذ التصميم بناءً على رسوماته وأفكاره، وقد تم الانتهاء من بنائه نسبيًا عام ١٧٤٧م ليكون مقرًا صيفيًا للملك.
أقسام قصر سان سوسي:
يتكوّن القصر من مبنى رئيسي ذي طابقٍ واحد فقط يضم عشر غرف رئيسية تصطف بجانب بعضها، وتعلوه قبّة بيضاوية أنيقة. يحيط بالقصر جناحان من الجانبين أحدهما للخدم والآخر للمكاتب والإسطبلات أما الحدائق التي تتقدمه (أمام القصر)، فهي أشبه بلوحة طبيعية تنبض بالحياة مزدانة بالأعمدة الكورنثية، والنوافير، والتماثيل، وكلها منسجمة بانسجامٍ تام مع البيئة المحيطة، ويتميّز القصر بأسلوب بنائه الروكوكو، وهو فن زخرفي فخم لا يقتصر على غرفة بعينها، بل يتجلّى في جميع أرجاء القصر بروعةٍ ساحرة.
لماذا سُمّي القصر بـ"سان سوسي"؟ "سان سوسي" مصطلحٌ فرنسيّ يعني "بلا قلق" أو "دون هموم"، وقد اختير بعناية ليكون اسمًا للقصر إذ أراد الملك فريدريك أن يجعله ملاذًا شخصيًا لا تطأه الأحزان، ومساحةً يخاطب فيها ذاته بعيدًا عن صخب الحياة وضجيج السياسة والحروب، وهكذا كان: عزلةً مختارة لا يؤنسه فيها سوى كلابه المفضّلة حتى زوجته لم يُؤذَن لها بالدخول إليه، ففي أحضان هذا القصر كان يستجمّ ويستعيد سكينته في لحظات العناء كأنما أراد أن يخلق لنفسه عالمًا لا يعرف الكدر.
ولفرط ارتباطه العميق بالقصر أوصى الملك فريدريك في وصيته أن يُدفن في سرداب أعلى التلة بجانب كلابه المفضلة، وهو ما لم يتحقق إلا بعد فترة طويلة من وفاته، فقد توفي عن عمرٍ ناهز ٧٤ عامًا في ١٧ من أغسطس عام ١٧٨٦م، ولم يُنفذ طلبه إلا في عام ١٩٩١م حيث أُعيد دفنه كما أراد في المكان الذي كان قد اختاره بعناية ليكون ملاذه الأخير.
أين نُقش اسم "سان سوسي"؟ نُقش اسم القصر تحت القبة الصغيرة في الجزء المركزي الدائري من المبنى الرئيسي، ليكون الشعار حاضرًا لكل من يدخل هذا المقام الملكي.
ماذا حدث للقصر بعد وفاة الملك فريدريك؟ بعد وفاة فريدريك الأعظم الثاني ظل القصر مهجورًا ومُهملاً لما يقارب قرنًا من الزمان حتى استقر فيه فريدريك ويليام الرابع (ابن شقيق فريدريك العظيم) في القرن التاسع عشر، فقام بترميمه وتوسيعه.
أضاف جناحين جديدين: أحدهما غربيّ للسيّدات، وآخر شرقيّ يضم المطبخ وقبو النبيذ، وذلك في عام ١٨٤١م.
هل يُعدّ قصر سان سوسي إرثًا عالميًا اليوم؟ نعم، فقد أُدرج القصر والحديقة المحيطة به ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام ١٩٩٠م، وتخضع حاليًا لحماية مؤسسة القصور والحدائق البروسية في برلين وبراندنبورغ حفاظًا على سحر هذا المعلم الاستثنائي، واليوم يفتح القصر أبوابه أمام الزوّار كل عام ليعيشوا لحظاتٍ من جمالٍ خالص، ويستحضروا تاريخًا ملوكيًا باذخًا.
في الأدب والفن:جمال القصر جعله محط أنظار الكتاب والمصورين مما دفعهم إلى إبراز معالمه في العديد من الأعمال، ومن أشهر القصص التي ذُكر فيها القصر هي قصة "قصة الأمير السعيد"التي تجسد رمزًا للجمال الذي لا يُشترى ولا يُباع.