صندوق الأرز: مأساة ولي العهد سادو بين جنون العقل وجبروت العرش

اعتاد التاريخ أن يشهد العديد من المؤامرات التي يُقتل أو يُسجن فيها الملوك ورثتهم من أجل العرش، أو العكس بدلًا من الإعدام الصريح كونهم يشكلون تحديًا سياسيًا لمملكتهم (لحماية السلطة)، وحتى في يومنا هذا ما زال العديد من هذه الأحداث يحدث تحت الطاولة ونحن لا نعلم عنها شيئًا! لا يخلو عالمنا من ذلك سواء طلبنا ذلك أم لم نطلبه! وفي هذه المقالة سنتعرف على إحدى هذه المؤامرات المأساوية، وهي قصة إعدام ولي العهد الكوري سادو، فهل هو ضحية سياسية أم مريض نفسي؟

نبذة عن سيرة الملك يونغجو (يونغ جو) وشخصيته :

وُلد الملك "يونغجو" من نسبٍ متواضع إذ كانت والدته "يي جيوم" مجرّد خادمة مياه في القصر (من أدنى طبقات المجتمع)، وكانت تخدم الملكة إنهايون، وقد أثار تضرّعها بالدعاء لسلامة الملكة (بمحض الصدفة) انتباه والدُه الملك سوكجونغ الذي أُعجب برقتها (تأثّر  بلُطفها)، فارتقت لتُصبح إحدى محظياته، وبعد إنجابها الأمير يونغجو رُقيت عام ١٦٩٤م إلى مرتبة قرينة ملكية من الدرجة الثانية ثم في عام ١٦٩٩م أُضيف إلى لقبها وصف "النقاء"، فأصبحت تُعرف بقرينة ملكية نبيلة نقية.

في عام ١٧٢٠م  وبعد أشهر قليلة من تولي شقيقه الأكبر الغير الشقيق (كيونغجونغ/ غيونغجونغ) العرش نُصّب يونغجو وليًّا للعهد مما أثار جدلًا واسعًا بين الفصائل السياسية في البلاط، وبعد أربع سنوات تُوفي الملك كيونغجونغ في وقتٍ مبكّر، فتسلّم يونغجو مقاليد الحكم غير أنّ شرعيّته بقيت محلّ شك نظرًا لأصوله المتواضعة، وتناقلت الألسن آنذاك شائعات تتّهمه باغتيال شقيقه ليغتصب العرش.

يُعد الملك يونغجو الحاكم الحادي والعشرين من ملوك مملكة جوسون، وقد سجّل أطول فترة حُكم في تاريخ المملكة من بين جميع ملوك مملكة جوسون السبعة والعشرين إذ دام حُكمه حوالي ٥٢ عامًا كما عاش حتى بلغ ٨٣ عامًا، ليُسجَّل بوصفه الملك الأطول عمرًا في تاريخ جوسون، وخلال حياته تزوّج بستّ نساء، وأنجب ابنين وسبع بنات.

ملاحظة جانبية غير مؤكدة: مأساة ولي عهد عاجز تُذكر رواية غريبة ومؤلمة في كتب التاريخ الكوري مفادها أن المحظية جانغ (والدة الملك كيونغجونغ) قامت قبيل مقتلها بضرب ابنها على موضعه التناسلي بقطعة خشبية ما تسبب له بعاهة مستديمة (العُقم)، وقيل إنها حاولت اقتلاع عضوه التناسلي محاولةً اصطحابه معها إلى الموت، ففقد وعيه نتيجة الألم، وعُرف لاحقًا بعدم قدرته على الإنجاب. 

نبذة تعريفية عن الأمير سادو "الثمين": الاسم الشخصي للأمير سادو هو "يي سيون"، ويُعرف أيضًا بـيون جوان أو أويجاي أما اسمه الكامل فهو "لي سيون يونغجو هوي".

والآن سنبدأ حكايتَنا عن الأمير يي سيون المعروف باسم سادو:
يُروى أن الملك يونغجو كان يعاني من عقدة نقص، وميولٍ شديدة نحو الكمال مما جعله يسعى جاهدًا لأن يُعترف به بين الأجيال كقائدًا عظيمًا ومُلهمًا فلم يكتفِ بالسعي لتمجيد اسمه، بل حاول أيضًا أن يُربي أبناءه بصرامةٍ شديدة، ليصبحوا قادةً حقيقيين يضاهونه في الحكمة والهيبة لكن القدر لم يُمهله طويلًا، فقد فجعه برحيل ابنه البكر (الأمير هيوجانغ) الذي تُوفي فجأة عام ١٧٢٨م عن عمرٍ لم يتجاوز التاسعة، وبهذا الفقدان خسر الملك وليّ عهده، وبقي بلا وريث غير أن الأمل عاد ليُزهر بعد سبع سنوات من تلك الخسارة ففي اليوم ١٣ فبراير عام ١٧٣٥م أنجبت خليلة الملك المفضّلة (يونغبين لي) طفلًا عن عمر يُناهز الأربعين عامًا، وقد كانت من خلفية اجتماعية متواضعة إلا أن ولادتها لهذا الطفل الذي سُمّي آي سيون، وعُرف لاحقًا بولي العهد سادو غيّرت مصير القصر، ففي ذلك الوقت كان الملك قد بلغ الثانية والأربعين من عمره، وهو عمرٌ يُعدّ كبيرًا بمقاييس تلك الحقبة.

وبما أن هذا الطفل جاء بعد طول انتظار فقد نُصّب وليًّا للعهد فور ولادته، ليُصبح بذلك أصغر وليٍّ للعهد في تاريخ مملكة جوسون، وتشير السجلات إلى أنه عُيّن في هذا المنصب وهو في عامه الأول، أو في عمر خمسة عشر شهرًا، أو حتى في عامه الثاني. كما سُجّل رسميًا بوصفه الابن الشرعي بالتبني للملكة "جيونغ سونغ سيو" زوجة الملك يونغجو، وأُعلن وريثًا رسميًا للعرش.

رفع الملك آماله إلى أقصى حدودها، وتعلّق بابنه الصغير تعلقًا شديدًا حتى أنه كان يسهر ليلًا ليكتب ويُنسخ الكتب بيده كي تكون جاهزة بين يدي الأمير حين يكبر لكن من أجل أن يُنشئه قويًا ومستقلًا أمر الملك بفصل الطفل سادو عن والدته يونغبين لي قبل أن يُكمل المئة يوم من عمره، ونتيجة لذلك لم تنشأ بينهما علاقة قوية إذ كانت والدته تزوره أحيانًا مرةً واحدة في اليوم، أو مرةً كل يومين، أو حتى مرةً أو مرتين فقط في الشهر.

في سنّ مبكر أظهر ولي العهد سادو ذكاءً استثنائيًا لدرجة أنه لُقّب بالطفل المعجزة. كان أميرًا موهوبًا ومجتهدًا، فأحبّه الملك كثيرًا، وكان يتركه بين الحين والآخر بين وزرائه، ويطلب منه كتابة رسائل ليوزعها على رعاياه كما اعتاد الملك إجباره على الدراسة فقط مانعًا إياه من اللهو، وعندما اكتشف أن ابنه وهو في الرابعة من عمره خالف أمره ولعب سرًا غضب الملك بشدة ووبّخه، فخاف الأمير سادو منه لدرجة أنه لم يستطع أن ينبس بكلمة أمامه، ومنذ ذلك الحين أصبح يُخفي خوفه من كل شيء خلف ابتسامته. 

          عندما كان في أربعة أشهر من عمره كان قادرًا على الزحف، وعند ستة أشهر كان يستطيع الاستجابة لنداء والده، وعند سبعة أشهر تمكن من التمييز بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وعندما بلغ عامين تعلم كتابة الحروف وكتب٦٠ حرفًا، وفي سن الخامسة عندما تحدث إليه الملك أثناء تناوله الطعام بصق كل ما في فمه، وعندما سأله الملك عن سبب فعله لذلك أجابه: «تعلمت في المدرسة الابتدائية أن من طاعة الوالدين أن أبصق ما في فمي عندما يتحدث أحد الوالدين إليّ»، وعندما سُئل عن الفرق بين الحرير والقطن أيهما فاخر وأيهما ليس فاخرًا؟ التقط ولي العهد الحرير وقال: «هذا ترف» ثم التقط القطن وقال: «ليس الجهل بترف».

في عام ١٧٤٤م / ١٧٤٥م عندما بلغ من العمر التاسعة تم تزويجه للسيدة "هي غيونغ" (ابنة أحد كبار الخدم) التي كانت تبلغ أيضًا التسع سنوات، ومن بعد ذلك بدأ يُظهر تراجعًا ملحوظًا في اهتمامه بدراسته، ويتصرف بتصرفات غير ناضجة وطائشة تتناسب مع طفولته، وما زاد من سوء الوضع أنه تعرض لاعتلال خطير في صحته حيث كان يفقد وعيه بشكل متكرر (يُعتقد أن المرض الذي أصابه هو الحصبة) وهذا الأمر جعل الملك يشعر بالخيبة والعار حيث كان يرى ذلك ضعفًا حتى بعد تعافيه من مرضه لم يُعجب الملك بتلك الحالة، ومن بعدها أصبح الملك أكثر قسوة على الأمير، وكان يهاجمه باستمرار مما جعل الأمير سادو يخشى مقابلة الملك، وكان يرتجف مرعوبًا عند حضوره.

          كل ما كان يفعله ولي العهد لم يكن يُرضي والده الملك، فكلما تحدث كان يُوبَّخه، وإذا درس تم توبيخه، وإذا لم يدرس تعرض للتوبيخ أيضًا حتى عندما يُجيب على أسئلة الملك بشكل صحيح كان يُوبَّخه لأنه كان يحمل أفكارًا وكلمات تختلف عن ما كان يتوقعه.


*في عام ١٧٥٠م وُلد ابن سادو الأكبر وتوفى بعد سنتين، وفي نفس العام (١٧٥٢م) وُلد ابنه الثاني المعروف لاحقًا باسم جونغجو.

عندما بلغ سن الخامسة عشر في عام ١٧٤٩م لمح الملك يونغجو عن أنه سيتنازل عن العرش أمام وزرائه لابنه (سيسلم منصب الملك لولي العهد) لكن اعترض الوزراء وولي العهد على ذلك لأن تعيين ملك آخر عندما يكون الملك الأساسي حي يعد خيانة للمملكة و للملك حتى لو كان ذلك الملك الآخر هو ولي العهد الحالي، فقرر الملك تعيينه نائبًا وصيًا للعرش متأملًا أن يتعلم من ذلك القدرة على اتخاذ القرارات بشأن المسائل الإدارية (الشؤون الحكومية)، ولكن للأسف خاب ظنه، فكل قرارات الأمير سادو في نظر والده كانت خاطئة، فيشكك بجميع قراراته (ينتقده بشدة لأي خطأ) ويلقي عليه اللوم الكامل على أي شيء يحدث حرفيًا حتى الأيام الممطرة كان بطريقة أو بأخرى يلومه عليها (لم يشيد به ولو مرة، كان بخيلًا بالإطراءات)، والأسوأ من ذلك أنه كان دائمًا ما يوبخه و يؤدبه أمام حشود كبيرة كالوزراء والمسؤولين والسيدات (يستمتع بإذلاله)، ولم يُسمح له بزيارة مقابر الأجداد، وهذا يعد بمثابة انتقاص من كرامة ولي العهد.

        غالبًا ما كان الملك يونغجو يثير الضجة قائلاً إنه لا يرغب بالعرش! وكان يفعل ذلك متعمدًا لتحقيق الاستقرار السياسي وتعزيز سلطته الملكية.

وفي عام ١٧٥٢م توفيت أُخته الأميرة الكبرى الغير شقيقة (هو هيوب) المقربة له بعد إصابتها بمرض الحصبة فحزن عليها الأمير سادو بشدة حتى وصلت به الحالة للهلوسة. يُقال أنه عندما بدأ بقراءة نص الطاوي المسمى "أوكتشوجيونج" هلوس بأنه قد رأى إله الرعد، فدب الرعب في جسده، ومن بعدها رفض أن يلمس الكتاب وبدأ يشعر بالخوف الشديد من العواصف والسماء وأي نقش يحمل أسماء شخصيات من نص الكتاب. 

        «كان هناك رابط خاص بيني وبين هوهيوب، ولكن بعد أن توفيت فجأة لا توجد طريقة لمقارنة هذا الحزن، لا أستطيع أن أعبر عن نفسي حيال هذا الحزن ذلك هو أقصى حزني!».

 

 

*عندما كانت والدة ولي العهد البيولوجية مريضة ذهب سادو لزيارتها في قصر تشانغغيونغونغ، فانفجر الملك يونغجو غضبًا عليه عندما رآه صدفةً يحيي (ابنته المفضلة) أخته الصغرى غير الشقيقة "الأميرة هواوان" قائلاً: «اخرج الآن ولا تفكر في الدخول أبدًا» فخرج سادو بجنون راكضًا طول الشارع، وهو يتسلق الجدران والنوافذ هاربًا إلى مقر إقامته صارخًا بصوت عالٍ قائلاً: «أنا حزين جدًا لأن شيئًا كهذا حدث لي دون أي خطأ مني لدرجة أنني سأتناول الدواء وأنتحر».

 

وفي عام ١٧٥٧م توفيت الملكة إين وون / إنوون (جدته)، وتلتها الملكة جيونجسيونج / جونغسونغ (الزوجة الأولى للملك وأم سادو بالتبني) بفارق أقل من شهر، فتدهورت صحته العقلية بسبب فقدانه لهما إذ كانتا قريبتين منه للغاية، وكانت علاقته معهما مميزة. بدأ يظهر عليه تدهور تدريجي في سلوكه حيث بدأ يعاني من رهاب الملابس، و أصبح ارتداء الملابس بالنسبة له محنة. كان يطلب عدة مجموعات من الملابس، وحتى مع وجود ما يقارب ٢٠ إلى ٣٠ مجموعة كان من الصعب عليه اختيار الزي المناسب، وكل يوم كان يحرق البعض منها كذبيحة روحية لإرضاء إله السماء، وإذا لم يجد ما يريده يصبح عنيفًا تجاه من حوله مثل الخصيان.

         يُقال أن ولي العهد لم يرغب في ارتداء الملابس لأنه لم يكن يريد مقابلة الملك يونغجو.

بعد عودته من موكب دفن الملكة جونغسيونغ وبّخه الملك مجددًا مما دفعه للتخلص من إحباطه المتراكم إلى ارتكاب أول جريمة قتل في حياته. دخل إلى غرفته بصمت يحمل بين يديه رأس أحد الخصيان الملكيين وقد فُصل عن جسده ثم أجبر زوجته وخادمات القصر على النظر إلى هذا المنظر المروّع دون أن يرف له جفن، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل بدأ بملاحقة الخصيان وضربهم بعنف حتى أنه ذات مرة أشعل النار في القصر عن غير قصد، وكادت زوجته وابنه الصغير أن يلقيا حتفهما في الحريق.

ومع مرور الأيام أخذ عنفه يزداد بشكل مخيف، فصار يقتل موظفيه بطريقة عشوائية يقطع رؤوسهم دون تمييز، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض أو الشكوى، وتطورت الأمور حتى بات القصر يشهد جرائم متكررة بلا توقف رجلًا تلو الآخر، وامرأةً تلو أُخرى، وتشير بعض الروايات إلى أن عدد من قُتلوا على يده تجاوز المئة شخص حيث كانت الجثث تُنقل سرًا من قصره كل يوم، ولم تقتصر أفعاله على القتل فحسب، بل كان يعتدي جنسيًا على وصيفات زوجته، ويُسيء إلى عائلته لفظيًا وجسديًا حتى زوجته السيّدة هيغيونغ هونغ لم تسلم من أذاه إذ لم تكُن تجرؤ على حضور الاجتماعات الملكيّة بعدما ألقى برقعة الشطرنج في وجهها ذات يوم، فكاد أن يُصيب عينها إصابةً بليغة حينها لجأت إلى والدة سادو البيولوجية تستغيث بها من شدّة ما تتعرّض له غير أنّ الأم توسّلت إليها ألّا تُطلع الملك على الأمر خشية أن يبلغ ذلك سمع ولي العهد، فيثور غضبًا ويُنزل بها العقاب.

بل إنه لم يعد يكتفي بجرائمه داخل أسوار القصر، بل كان يتسلل ليلاً متنكرًا في أزقة المدينة، ليُنفذ جرائمه في الظلام كما يشاء، وكأن الشيطان ذاته يسير على قدميه، ومما زاد الطين بلّة أن شقيق إحدى محظيّات الملك يونغجو كان يُقدِّم له تقارير يوميّة عن سلوك ولي العهد الغريب سواء كانت تلك التقارير صحيحة أم مبالغًا فيها! حتى إذا بلغ الملك أن ابنه كان طريح الفراش ذات مرّة ذهب إليه لا ليواسيه، بل ليوبّخه بقسوة، فما كان من سادو إلّا أن هرب من النافذة مذعورًا من الموقف، ومنذ ذلك الحين ظهرت عليه تَأتأةٌ واضحة في نُطقه الأمر الذي زاد من غضب والده الذي أصرّ على أن السبب هو الإفراط في شرب الخمر لا شيء سواه.

عندما بلغ الملك نبأ ما اقترفه ابنه من جرائم تحت وطأة الغضب استدعاه إلى حضرته. لم يُنكر سادو ما فعل، بل اعترف به علنًا مبررًا أفعاله بأنّ في داخله غضبًا مُشتعلًا لا يُخمد، نارٌ لا تنطفئ إلا بالضرب أو القتل. قال بصوتٍ منكسر: «إنني أتألّم... وأنت والدي لا تُحبّني»، فحاول الملك أن يُخفّف من وقع كلماته واعدًا بأنه لن يُكرر ما بدر منه من جفاء، وأنه سيُحسن إليه لكنّ الوعود تبخّرت إذ إنّ الملك لم يُغيّر من عاداته شيئًا، و ظلّت القسوة سجنهما المُشترك.

* في عام ١٧٦٠م اشتدّ عليه الخناق ولم يعد يحتمل البقاء في قصرٍ يجمعه بوالده الملك. ضاقت روحه، فالتفت إلى شقيقته الصغرى (الأميرة هواوان) الابنة المُدللة لدى الملك، و طلب منها أن تُقنع أباها بنقله إلى قصرٍ آخر لم يكن طلبًا بريئًا، بل صاحبه تهديدٌ صارخ بأنّه سيقتلها بالسيف إن لم تُطع أمره.

نجحت هواوان بفطنتها أو ربما بخوفها في استرضاء والدها وإقناعه، وهكذا أُبعد ولي العهد عن عتبة الملك، فتنفّس الصعداء، وراح يعيش كما يشتهي انغمس في الفنون القتالية، وانشغل بالمساعي الفنية كأنّه يُحاول نحت حياة أكثر تحرّرًا وصخبًا. 

بدأ يُفرط في الشراب، ويُقيم الحفلات الصاخبة التي يحشد فيها الموسيقيين والأطباء والفلكيين والرهبان، بل وفتيات الهوى فإن لم يرق له حديث أحدهم قتله أو عذّبه دون رادع غير أن هذه الحياة سرعان ما فقدت بريقها في ناظريه، فسئم، وبدأ يخرج من القصر متنكّرًا تائهًا في ليله الطويل كأنّه يبحث عن شيء لم يعد يعرفه… أو عن نفسه التي تلاشت في ظلّ أبيه.

* في عام ١٧٦١م - ١٧٦٢م  وقع حادثٌ مأساوي يعبّر عن عمق الأزمة النفسية التي كان يمر بها ولي العهد سادو ففي تلك الفترة اعتدى سادو على خليلته المفضلة (جيونجبين بارك) التي كانت قد أنجبت له ابناً وابنة تاركًا إياها تنزف بغزارة حتى الموت بينما كانت تحاول مساعدته على ارتداء ملابسه. 

تظهر السجلات أن الأمير سادو عندما بلغ الواحد والعشرين عامًا كان غالبًا ما يؤذي نفسه، وحاول الانتحار عدة مرات، فقد حاول إغراق نفسه في بئرٍ، وكان كثيرًا ما يتساءل عن معنى الحياة وعن الهدف من العيش.

بحلول الرابع من يوليو من ١٧٦٢م عندما كان الأمير سادو في السابعة والعشرين من عمره أصبح مفرطًا في شرب الخمر كما حاول الاعتداء جنسيًا على وصيفة جدته وهي أخته الصغرى التي كانت حينها طفلة، وترددت إشاعات بشأن محاولته مطاردة الملك لقتله في سعيٍ للتمرد، وعلى إثر ذلك تقدم مجلس الوزراء بشكوى إلى الملك مطالبين بخلع الأمير وإعدامه حتى أن والدة سادو توسلت إلى الملك أن يتخذ إجراءات حازمة مع ابنها خوفًا على سلامة حفيدها منه، وفي نهاية المطاف بلغ صبر الملك حدّه مما اضطره إلى التدخل لإيقاف تصرفات ابنه المشينة.

 

أولًا) تم استدعاء الأمير سادو للمثول أمام الملك، ولكن نظرًا للقوانين السائدة في ذلك الوقت لم يكن من الممكن أن يُنفذ الملك حكم الإعدام عليه بشكل مباشر، وذلك للأسباب التالية:
١) لا يُمكن تدنيس جسد أي فرد من العائلة الحاكمة حتى في حالة الإعدام، وفي حال تم إعدام ولي العهد كان من الضروري أن يُنفذ نفس الحكم على زوجته وابنه الأبرياء كجزء من العقوبة المجتمعية.
٢) لم يكن بإمكان الملك أن يقتله بالسم لأنه في حال قام بذلك كان سيُعتبر خائنًا، ووفقًا للقانون إذا كان الأمير خائنًا، فإن الملك نفسه سيُعتبر خائنًا أيضًا مما كان سيضر بسلطته ومكانته.

لذلك أمره الملك بالانتحار لكي لا يُصعّب الأمور على عائلته ولتجنب معاقبتهم معه، ولكن الأمير سادو رفض الانتحار (لم يستمع للأمر) بناءً على ذلك قرر الملك إصدار أمر يسمح بإجراء عقوبة أخرى بموافقة والدة سادو حيث تقرر أن يُوضع ولي العهد في صندوق خشبي يُستخدم عادةً لتخزين الأرز، ويُحرم من الطعام والماء، ويُغلق عليه حتى يلقى حتفه.

فُعل الأمر فتم في البداية تجريد الأمير من جميع ألقابه وأصبح من عامة الشعب ثم تم تصنيفه كمجرم ثُم أُجبر على الدخول إلى صندوق الأرز الخشبي الضيق الذي تم تغطيته بحشائش، وأُحتجز بداخله دون طعام أو ماء لمدة سبعة أيام متتالية، وفي اليوم الثامن فُتح الصندوق ليُعلن عن وفاته بسبب حرارة الشمس ونقص المياه ثم تم دفنه في جبل بايبونغسان في يانغجو.

 

قام الملك بطرد زوجة سادو وولي العهد من القصر وأمر بإعدام جميع المسؤولين عن وفاة الأمير سادو باستثناء الأم والابن، وبعد خمسة عشر يومًا من وفاة سادو أعاد الملك الألقاب الملكية إليه وأعطاه لقب "سادو" الذي يعني "أفكر بحزن شديد" ثم نسب ابنه الأمير الوريث جونغجو إلى عمه الراحل هيوجانغ، وأُعلن خليفة لعمه كما تم منع أي ذكر لاسم سادو طوال بقية فترة حكمه.

* أطلق الملك على الأمير الراحل اسم "سادو" الذي يعني حدادًا على وفاته حيث كان هذا الاسم يعكس شعورًا بالحنين والافتقاد لشخص عزيز، ولكن بعد فترة أخبر المفسرون الملك بأن لقب "سادو" (السا) يعني الندم على الماضي بينما (دو) تعني أن الأمير مات في وقت مبكر أي أنه مات بعد تصحيح خطأه، ولهذا السبب كان يُحرم ذكر اسم سادو طوال فترة حكم الملك.

**رغم السُمعة الإيجابية التي يتمتع بها الملك يونغجو في التاريخ الكوري إلا أنه لا يزال يُذكر أكثر بقسوته الشديدة وطريقة إعدام ابنه المذلة والصادمة، ويُعتبر حدث وفاة الأمير سادو واحدًا من أعظم المآسي التي شهدتها مملكة جوسون حيث أثرت هذه الحادثة بشكل عميق في تاريخ المملكة وأصبحت رمزًا للصراع بين الواجبات الملكية والعلاقات العائلية المدمرة.

وفاة ولي العهد سادو تمت بطريقة غريبة، وما جعل المأساة أكثر فظاعة هو أنها قضية حقيقية لا تزال تثير الجدل حتى يومنا هذا! التكهّنات حولها غالبًا ما جعلتها محط أنظار كتّاب الأفلام والدرامات، ومن بعض هذه النظريات:

١) هل كانت وفاته انتقامًا لسوء سلوكه حقًا أم هو مجرد ضحية لسوء الرعاية الصحية النفسية؟

٢) هل كان سادو يعاني من مرض حقيقي أم أن وفاته كانت نتيجة لمؤامرة خبيثة من خصومه السياسيين (صراعات حزبية)؟

الجزء المحزن حقًا في حياة سادو هو أنه كان يعلم بمعاناته النفسية لكن لم يُسمح له بتلقي العلاج أو حتى محاولة فهم حالته لأن العلاج النفسي كان يُعتبر محرمًا في تلك الحقبة ما جعل حياته أكثر صعوبة وعذابًا إذ لم يكن يُنظر إليه كإنسان يعاني من مرض يحتاج إلى علاج، بل كان يُعامل كمجرم يُعاقب على أفعاله.

            كتب لوالد زوجته أنه يعاني من مرض لا يبدو أنه يستطيع التحسن منه، وأنه يشعر بالحرج الشديد منه والقلق المستمر والاكتئاب العميق والفراغ الذي يعيشه. اعترف بأنه لا يرى الراحة، وأنه بالكاد ينام أو يأكل، وأن الأدوية التي يتم إعطاؤه إياها لا جدوى منها. كان في حالة من اليأس الشديد، وكأن جسده وعقله في صراع مستمر بلا أمل في الشفاء أو الراحة.

وفي عام ١٧٧٦م بعد مرور أربعة عشر عامًا من وفاة الأمير "سادو" توفي الملك "يونغجو" عن عمر يُناهز ٨٣ عامًا ليتولى الحكم من بعده حفيده جونغجو (ابن ولي العهد السابق سادو) عن عمر يناهز ٢٥ عامًا، وبمجرد اعتلائه العرش كملك المملكة الثانية والعشرين لجوسون كانت من أولى قراراته هي رفع والده سادو إلى مرتبة الملك (إمبراطور) وأعلَن عن نفسه أنه ابنٌ له حيث صرخ قائلاً: «أنا ابن ولي العهد الراحل سادو» كما غيّر اسم والده من سادو إلى جانغهيون الذي يعني "الشخصية النزيهة والمستقيمة"، ليعيد له بعضًا من كرامته المفقودة.

قام أيضًا بإعادة دفن والده في قبر مناسب لملك في يونغ نيونجهو، وأقام نصبًا تذكاريًا في قلعة هواسونغ لإحياء ذكرى والده في عام ١٧٩٦م حيث لا يزال هذا النصب قائمًا إلى اليوم، ولم يتوقف عن محاولات تبرئة اسم والده، بل طوال فترة حكمه عمل على استعادة شرفه ما ساهم في تحسين وتطوير المملكة بفضل سياساته الحكيمة، وقد عُرف الملك جونغجو كواحد من أعظم وأفضل حكام كوريا نجاحًا وإنسانية على الإطلاق.

📝 بقلمي (اللَّهُم إني أسألكَ الجَنَّة بغيرِ حساب ولا سابِقِ عذاب، اللهُم إنِّي أسْألُكَ ⁧⁩ الجَنَّة وَأسْتَجِيْرُ بِكَ منَ النَّار).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال