تجلّت أسطورةٌ خالدة في عمق الموسيقى الكلاسيكية نسجها الخيال وسقاها الحنين إنّها "باليه بحيرة البجع" رقصة الحلم والوجع التي تجسّد قصة الأمير زيغفريد والأميرة أوديت التي حوّلها ساحرٌ شرير إلى بجعة بيضاء، وفي هذه المقالة سنغوص معًا في أسرار هذه الأسطورة وسحرها الأبدي الذي لا يزال يأسر القلوب.
حكاية باليه بحيرة البجع مقسمة إلى مقدمة وأربعة فصول أما العرض المسرحي فغالبًا ما يُقدَّم في ثلاثة فصول.
المقدمة:
كانت هناك أميرة جميلة تُدعى أوديت تسير في نزهة حين التقت رجلاً يُجسّد اللطف، وبما أن أوديت كانت خجولة حاولت رفضه مرارًا وتكرارًا لكنه لم يُعجَب بذلك، ففاجأها بكشف هويته الحقيقية: إنه الساحر الشرير فون روثبارت، فارتعبت أوديت، وقبل أن تتمكن من الفرار لعنها بلعنة غريبة؛ ففي النهار تتخذ شكل البجعة الرقيقة أما بين منتصف الليل وفجر الصباح مع ضوء القمر السحري، فتستعيد شكلها البشري محتجزة بين عالمين لا تنتمي لهما حقًا.
كانت والدة أوديت تبحث عنها طوال النهار بلا جدوى، فلا تراها إلا في الليل حيث تبوح لها أوديت بسِرّ الساحر ولعنته التي قيدتها، وتعويذته التي لا تُكسر إلا بتعهّد حبٍ صادق وقبلة مخلصة. غمر الحزن قلب الأم، فانهمرت دموعها بلا انقطاع حتى جمعت نهرًا كاملاً من البكاء ثم وافاها الأجل، وأصبحت تلك البحيرة المملوءة بدموع والدة أوديت المقر السحري الذي تقيم فيه أوديت مع عذراء أخريات جميعهنّ حوّلهنّ الساحر إلى بجعات أسرى لعنة لا تنفك.
الفصل الأول: على شرفة القصر بجانب البحيرة
تُقام مأدبة احتفالًا ببلوغ الأمير سيغفريد سن الرشد (٢١ عامًا) لكنه كان يشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وحزنًا عميقًا لفقدان والده الملك منذ أن كان صبيًا صغيرًا. حاول أصدقاؤه وسيدات البلاط صرف انتباهه وتغيير مزاجه ولكن دون جدوى.
في تلك اللحظات ظهرت والدته الملكة الأرملة برفقة المستشار حاملةً الهدايا: قوسًا وسهمًا، وقدمتها له ثم أخبرته بضرورة اختيار عروس من بين النساء اللواتي أُعِدّ اختيارهن له في حفلة ستُقام مساء الغد «حان الوقت لتتزوج» ثم أخبرت الحضور بأنها ستقيم حفلاً فخمًا في مساء الغد.
مع حلول المساء غادر سيغفريد الأمسية وهو منزعج من إلحاح والدته في موضوع الزواج. توجه إلى حديقة القصر حيث اعتاد صيد البجع وحيداً أحيانًا، وأحيانًا يُقال بِرفقة أصدقائه.
الفصل الثاني: بجانب البحيرة
اجتذب سرب من البجع انتباه الأمير سيغفريد فتبعه حتى وصل إلى بحيرة غامضة، وعندما أعد قوسه لصيد إحداها، فوجئ برؤية إحدى البجعات تتحول أمام عينيه إلى فتاة. ذُهل سيغفريد وبدأ يقترب منها بحذر، فخافت الفتاة وتراجعت خطوة، فأكد لها أنه لم يقصد إيذاءها، فاطمأنت وبدأت تحكي له قصتها: إنها أميرة تُدعى أوديت، ولسبب مجهول وقعت تحت تعويذة الساحر الشرير فون روثبارت. تبوح له بكل شيء بلا خجل أو تردد كأن الكلمات تنساب كأمواج تروي ألمها وحكايتها. تودد إليها الأمير وأعلن ولاءه وإخلاصه الأبدي، ووعد بأن يقدمها لأمه في حفل ميلاده ليتزوجها.
فجأة ظهر الساحر الشرير في هيئة بومة مخيفة / وحش طائر منفوش الريش. أمسك سيغفريد بقوسه وأعدّ لصده لكن أوديت تصدت له وقالت: «إذا قُتل لن أستطيع كسر التعويذة، وسأظل أسيرة هذه الهيئة إلى الأبد» ففرّ فون روثبارت، وهربت أوديت وتبعها سيغفريد عائدًا إلى القصر.
الفصل الثالث في قاعة القصر
في الليلة التالية عشية عيد ميلاد الأمير سيغفريد تُقام حفلة كبيرة بحضور الضيوف و الملكة والأمير والعروسات المحتملات حيث يتناوبن في أداء رقصات تعكس تراث بلدانهن المتنوعة، ومع ذلك كان سيغفريد مشتت الذهن وغير مهتم يتردد في قلبه ثقل قرار الزواج.
مع نهاية الرقصات أخبر سيغفريد والدته بأنه لا يرغب في الزواج من أي واحدة منهن، وفي تلك اللحظة دقت الأبواق معلنة وصول الضيوف، وكان من بينهم الشرير فون روثبارت وابنته أوديل التي حوّلها الساحر لتشبه أوديت إلى حدٍّ لا يدع مجالاً للشك كأنها نسخة طبق الأصل من الأميرة الحقيقية بهدف كسر عهد الولاء والإخلاص الذي قطعه الأمير لأوديت. خوفًا من زوال سحره اختطف فون روثبارت أوديت الحقيقية وحبسها في قصره تاركًا ابنته المزيفة لتكون بديلًا عن أوديت.
شعر سيغفريد بسعادة غامرة ظنًا منه أن أوديل هي أوديت الحقيقية، فقسم يمينًا بأنه سيجعلها زوجة له، وفي لحظة تعهده بهذا الزواج أُبطل عهد إخلاصه السابق لأوديت، فباتت هي محكومة بالموت.
في نفس اللحظة كانت أوديت الحقيقية تراقب المشهد من نافذة القصر، فغلبها الحزن والدموع، واندفعت نحو قرار الانتحار بينما أدرك سيغفريد فجأة أنه قد خُدع، فهرب مسرعًا في حالة من اليأس إلى ضفاف البحيرة محاولًا إيقاف أوديت من الانتحار وإنقاذها من المأساة التي تحيط بهما.
الفصل الرابع في البحيرة
مع نقض عهد سيغفريد خيّم الحزن على عذارى البجعات، فتجمّعن حول أوديت في صمتٍ مفعمٍ بالذهول والأسى، وما لبث أن وصل الأمير إلى البحيرة تتخبطه عاصفة من الندم، فبادر يشرح لها الحقيقة المؤلمة معترفًا بأنه وقع ضحية خداع الساحر الشرير فون روثبارت، وطلب منها المغفرة.
تفهمت أوديت خطأه، وقبلت اعتذاره بقلبٍ يئن تحت وطأة الألم رغم أن اللعنة ما تزال تُكبّلها حابسةً إياها في جسد بجعة أسيرة هيئة لم تخترها.
في تلك اللحظة ظهر فون روثبارت مجددًا متخفيًا في هيئة بومة سوداء مهيبة، وصرخ بأمره: أن يفي سيغفريد بقسمه ويتزوج أوديل كي يحتفظ بأوديت أسيرةً إلى الأبد لكن سيغفريد في صمودٍ نادر رفض مصيرًا لا يحمل حُبًا، وأدار ظهره للقدر المفروض عليه، فأمسك بيد أوديت، ورقصا معًا رقصة وداعٍ وتمرد، رقصة لا يُبصر فيها إلا النور المنبعث من قلبين متحدين في وجه اللعنة، وفي لحظة جريئة يائسة ألقيا بنفسيهما في أحضان البحيرة متحدين السحر والموت في محاولة أخيرة لكسر القيود وتحرير الأرواح.
نهايات متعددة لباليه "بحيرة البجع": لا نهاية واحدة تُكتب لهذه الأسطورة، بل تتعدد الخواتيم بتعدد الرؤى بين مُخرجًا يرى الخلاص في الموت، وآخر يجده في الحب الذي ينتصر على اللعنة:
١) نهاية الفداء الفردي: في لحظة من اليأس النبيل يُلقي سيغفريد بنفسه في البحيرة لا طلبًا للهروب، بل إعلانًا لحبٍ لا يشبه سواه. هذا الفعل العميق يُحرر أوديت وعذارى البجع من لعنتهم، وفي بعض الروايات تتحرر أرواحهن من سطوة الشر لكنهن لا يستعدن هيئتهن البشرية، ويظللن بجعات إلى الأبد كأن الفداء لا يكفي لإعادة ما سُلب بالكامل.
٢) نهاية العشق الأبدي: ترتمي أوديت في مياه البحيرة هاربة من مصير لا يليق بها، فيتبعها سيغفريد رافضًا أن يُفارقها حتى في الموت. يموتا معًا، وفي موتهما كُسر السحر وتلاشت قوة روثبارت الذي ما إن تهاوت التعويذة حتى انهارت سلطته فمات كما يموت الظل حين يظهر النور.
٣) نهاية الانتصار والحرية: يواجه العاشقان الساحر فون روثبارت، وتندلع رقصة مواجهة لا تعرف الرحمة، وفي إحدى الروايات تكسر أوديت جناحي الساحر عندما يظهر على هيئة طائر، وفي أخرى يكون سيغفريد هو من فعلها، ومهما يكن المنتصر فإن النتيجة واحدة: يُهزم الشر، وتتحرر البجعات، وينتصر الحب، فيعش سيغفريد وأوديت في سعادة لا يشوبها سحرٌ ولا ظلال.
٤) نهاية البطل المُحرِّر: يركض سيغفريد إلى قصر روثبارت المسحور لإنقاذ محبوبته، فيتحول الساحر إلى طائرٍ عملاق مرعب يشتبك معه الأمير حتى يرديه قتيلًا، فينهار القصر من حولهم، ويهرب العاشقان يدًا بيد من بين الأنقاض والدخان. يُكلل الحب بالزواج، وتزول اللعنة، وتشرق الحياة من جديد.
من هو مؤلف النص الأصلي لحكاية "بحيرة البجع"؟ لا يُعرف على وجه التحديد مَن الذي كتب النص الأصلي لحكاية "بحيرة البجع" كما أنّ مصدر الحبكة الأساسي يظل مجهولًا غير أنّ المتفق عليه أنّ القصة مستوحاة من التراث الشعبي، وتحديدًا من الفلكلور الألماني كما في حكاية "الوشاح المسروق" أو من الفلكلور الروسي كما في قصة "البطة البيضاء"، ولذلك يمكن القول إن بحيرة البجع هي مزيج أسطوري شرقي غربي صاغه خيال القرن التاسع عشر برشاقة باليه وجمال موسيقى.
الأصل التاريخي لباليه "بحيرة البجع": في عام ١٨٧١م وفي رحاب أوكرانيا قدّم الموسيقي الروسي "بيوتر إليتش تشايكوفسكي" مسرحية باليه إيمائية صغيرة ألّفها خصيصًا للأطفال من أقاربه، وأطلق عليها اسم "بحيرة البجع". رقَص تشايكوفسكي بنفسه جميع أجزائها مما أبهج قلوب أبناء وبنات إخوته حتى احمرّ وجهه من شدة التعب، ويروي البعض أن العائلة بأكملها قد شاركته الأداء في لحظة فنية عفوية كانت الشرارة الأولى التي أوحت له بميلاد عمله الأعظم.
في عام ١٨٧٥م كلّفه "فلاديمير بيتروفيتش بيغيتشيف" مدير المسارح الإمبراطورية في موسكو بتأليف موسيقى عرض باليه جديد بعنوان"بحيرة البجع" وافق تشايكوفسكي بسرور قائلاً:«وافقتُ جزئيًا لحاجتي إلى المال، وجزئيًا لأنني لطالما رغبتُ منذ زمن بعيد في خوض تجربة التأليف لهذا النوع من الموسيقى»، وبحماسٍ بالغ شرع في تأليف مقطوعاته ليقضي عامًا كاملًا في كتابة النوتات التي أتمها سنة ١٨٧٦م.
ثم جاء عام ١٨٧٧م ليشهد العرض الأول على خشبة مسرح البولشوي في موسكو من تصميم الرقصات النمساوي "يوليوس رايزنجر"، ولكن العرض لم يلقَ النجاح المرجو بل قوبل بانتقادات قاسية. وُصفت الموسيقى حينها بأنها "ثقيلة" و"صاخبة"، لا تنسجم مع الرقصات المصمّمة، فكان الإخفاق نصيب هذه الرؤية الأولى للعمل.
وفي مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر أبدى "ماريوس بيتيبا" (مصمم الرقص الفرنسي الشهير) رغبته في إحياء هذا العمل المهمل، وقد نال الإذن بذلك لكن الأقدار شاءت أن يرحل تشايكوفسكي في عام ١٨٩٣م قبل أن يرى حلمه يُبعث من جديد. لم يتوقّف المشروع بل أُوكلت مهمة إعادة التوزيع الموسيقي إلى الملحن الإيطالي "ريكاردو دريغو" بينما تولّى بيتيبا بالتعاون مع تلميذه الروسي "ليف إيفانوف" تعديل الرقصات والمشاهد، وقد تم ذلك بعد استشارة وموافقة "موديست تشايكوفسكي" (شقيق المؤلف الراحل).
وفي عام ١٨٩٤م تم تقديم النسخة المُعدّلة من "بحيرة البجع" على مسرح مارينسكي، لتلقى إعجابًا واسعًا، ويُعترف بها أخيرًا كتحفة خالدة تُجسّد جمال الباليه الكلاسيكي، و تأسر القلوب في أنحاء العالم. منذ ذلك الحين لم تفقد "بحيرة البجع" بريقها بل أصبحت واحدة من أعظم أعمال الباليه العالمية لا تُضاهى حتى أنها تسللت إلى عالم السينما، وظلّت تتجدّد في رؤى المخرجين على مرّ العصور.
ملحوظة: النسخة الموسيقية المُعتمدة اليوم أقصر بكثير من النسخة الأصلية التي ألّفها تشايكوفسكي.