أسطورةُ فايثون الإغريقية: لَهيبُ الحُلمِ المُتهوِّر

يُفسدُ المتهوِّرون حياتَهم بأفعالهم دون درايةٍ بالمخاطرِ والعواقبِ المترتّبة على سلوكهم، وفي هذه المقالة سنغوصُ في أعماقِ أسطورةِ فايثون ذلك المتهوّر الذي حاولَ تجاوزَ حدودِ البشر متحدّيًا قدرةَ الآلهة.

نُبذة عن فايثون: فايثون أو فايتون اسمه مأخوذٌ من الكلمة اليونانية "فايثو"، والتي تعني "التألّق" أو "التوهّج" أي: اللامع أو المُشرق، ويُرجع نسبُه إلى إلهِ الشمس هيليوس (الأب)، والحورية كليمِني / كليمن (الأم)، وقد أنجبا فتىً بشريًّا يُدعى فايثون، و سبع فتياتٍ حوريات يُعرفن باسم الهلياديات / هيليادس. 

معلومة جانبية: كثيرًا ما يقع الخلط حول من يكون والد فايثون الحقيقي: هل هو هيليوس أم أبولو؟ والسبب في هذا الالتباس هو الخلط بين دور كلٍّ منهما فبينما يُقال أحيانًا إن أبولو هو نفسه هيليوس تُرجّح رواياتٌ أخرى أنهما مختلفان: فـهيليوس هو من يقود عربة الشمس عبر السماء أما أبولو فكان يُعتبر في بعض التقاليد إله النور أو المسؤول عن شُؤون الشمس.

بداية أسطورة فايثون المتهور: 

تبدأ أسطورة فايثون بحكاية والدته كليمن التي تحدثته عن مجد والده هيليوس المتألّق، وذلك لأنهما يعيشان معًا دون وجود والدهما الحقيقي بجوارهما، فقد رَبَّته كإنسانٍ مع زوجها الجديد (ملك أثيوبيا) أما والده هيليوس فكانت له مهمة صعبة وثقيلة تتمثّل في قيادة عربةٍ ذهبية التي تحمل الشمس أو تجرّها من خلفها خيولٌ مجنّحة عبر السماء من الشرق إلى الغرب كل يوم، ليضيء كل ركنٍ من أركان الأرض دون كلل أو فشل، وهكذا تشرق الشمس وتغرب كل يوم، ولم يكتفِ حديث والدته كليمن عند هذا الحد، بل كانت دائمًا تخبره أن شعره الذهبي اللامع والمُجعد هو هبةٌ من والده إليه علامةٌ على نسبه الإلهي ومجده المتوهج.

فايثون حين كان صغيرًا كثيرًا ما كان يتفاخر أمام الأولاد وكل من حوله قائلاً: «والدي هو إله الشمس، لذلك لا تعبثوا معي!» ولكن مع مرور الوقت لم يعد أصدقاؤه يصدقونه، بل بدأ أقرانه يسخرون منه ويشككون في كلامه: «أنت مجرد بشري ضعيف لست ابن إله!» حينها ركض فايثون محمرّ الوجه باكيًا إلى والدته كليمن طالبًا منها إثبات أن والده هو هيليوس. حاولت تهدئته لكنها وجدته يقول لها بحزن: «أمي أحتاج إلى دليل، وإلا سأشعر بالخجل الشديد من مغادرة المنزل لأن الجميع سيعتقدون أنني أتفاخر كذبًا»

فردت والدته مشيرةً نحو السماء: «بالشمس التي تسطع فوقنا، أقسم لك يا عزيزي أن هيليوس هو والدك، وإن لم تكن كلماتي صادقة، فلا أتمنى أن أرى ضوء الشمس مرةً أخرى» فأصر فايثون قائلاً: «لكنني أحتاج إلى دليل يا أمي» فأجابته والدته بغضب: «حسنًا إذا كنت لا تصدق أمك، فكل ما أستطيع أن أقترحه عليك هو أن تذهب إليه بنفسك وتسأله!» ثم أخبرته بمكان إقامة والده.

ينطلق فايثون بلهفةٍ في رحلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر باحثًا عن والده، وبعد عناء طويل وصل إلى قصر والده (قصر الشمس المصنوع من الذهب والبرونز) حيث دخل وأُنبهر بفخامته ورُقيّه.

هناك رحب به هيليوس بحرارة، فتقدم فايثون ناشدًا والده راغبًا في أي دليل يُثبت نسبه مُخبرًا إياه عن السخرية والإذلال الذي واجهه من أقرانه. تأثر هيليوس بشدة، وفي لحظة عاطفية أبويّة أكد شرعيته، وأقسم في حضور مرافقيه على أن يمنحه كل ما يريد، و وعده بتحقيق أي أمنية يطلبها ليثبت كونه ابنه الشرعي.

ابتهج فايثون كثيرًا، وطلب بجرأة متهورة أن يقود عربة الشمس الخاصة بأبيه عبر السماء ليومٍ واحد. فزع هيليوس مما سمع، وحاول إقناعه بالعدول عن طلبه موضحًا له المخاطر الجسيمة التي قد يتعرض لها: «يا لجُرأتك! حتى العظيم زيوس لا يستطيع القيام بذلك، فهو إله الكون، وهذه مهمة شاقة وخطيرة، وأنت مجرد بشري، ومن الخطر عليك قيادة العربة» لكن الأحمق فايثون بلا جدوى أصر بشدة على مطلبه يتوسل إليه، ولسوء الحظ، وبما أن الآلهة لا يمكنها التراجع عن عهودها بعد أن تُقسم بها خصوصًا عندما يكون ذلك على نهر ستيكس الذي لا يُمكن العدول عنه استسلم هيليوس له، وأوفى بوعده على مضض، وسلمه زمام الأمور.

 

قاد هيليوس ابنه فايثون نحو عربة الشمس، وقلب فايثون مشتعل بالحماس، ونصحه بحزم: «لا تضغط على الأحصنة، ومن الأفضل أن تبقي اللجام ثابتًا» فوافق فايثون قائلاً: «حسنًا يا أبي، سأنفذ ما تقول» ثم صعد الصبي فايثون إلى العربة، وبمجرد إقلاعها لم يتمكن من السيطرة تمامًا على خيول عربة الشمس، فورًا أحست الخيول بعجز سائقهما الصغير بسبب عدم خبرته وخفة وزنه. بدأ الجموح يدب فيها جنونًا وسرعةً تخرج عن مسارها المعتاد للأعلى محدثةً شقًا في السماء يُعرف الآن بمجرة درب التبانة.

لوحة فايثون يقود عربة الشمس للفنان بنجامين جرين (أُصدرت بين عامي ١٧١٣م - ١٨١٠م).

ثم انحرفت العربة إلى مسار منخفض حيث أشعلت نارًا في الأرض أحرقت كل قارة أفريقيا حتى تحولت إلى صحراء شاسعة، ومنذ ذلك الحين أصبح شعب أثيوبيا ذا بشرة سوداء كما تسببت النيران بأضرار جسيمة لنهر النيل. صرخ البشر جميعًا من شدة الحرارة وتضرعوا إلى زيوس (ملك الآلهة) لإنقاذهم. 

أثار ذلك فزع زيوس، فغمره الغضب، ولمنع المزيد من الكوارث أطلق صاعقة قوية على فايثون، فاشتعل جسده، وسقط من السماء كنجم يهوى نحو الأرض ميتًا عند مصب نهر إريدانوس الذي يُعرف الآن باسم نهر بو في إيطاليا.

لوحة نُشرت عام ١٥٩٠م للمؤلف هندريك جولتزيوس.

لوحة سقوط فايتون لِبيتر بول روبنز أُصدرت ١٦٣٦م.

بعد سقوط فايثون المأساوي كانت شقيقاتهُ الهليديات يَنظرن إليه (شاهدن مصرعه ولم يستطعن مساعدته)، فاستحوذ الحزن عليهنّ، فبقين يبكين لمدة طويلة عند مكان سقوطه صريعًا على ضفاف النهر لذلك أشفقت عليهنّ الآلهة وحولتهنّ إلى أشجار حور بجانب النهر لحماية أخيهنّ إلى الأبد، فترسخت أقدامهنّ في الأرض، وحولت دموعهنّ إلى حجر الكهرمان (العنبر)، وحتى يومنا هذا يُقال إن بالقرب من ضفاف ذلك النهر يمكن للمرء سماع صوت بكائهنّ (تنهدات لطيفة) كما يمكن أن يجد هناك حجر الكهرمان.

شجرات الهلياد تتحول إلى أشجار حور لِلفنان يوهان فيلهلم باور أُصدرت عام ١٦٠٠ م - ١٦٢٤ م.

أما بالنسبة لهيليوس فقد حزن وندم بشدة، فحبس نفسه ورفض قيادة مركبته مرة أخرى لعدة أيام. توسلت إليه الآلهة أن يركبها، وفي النهاية وافق بعدما أخبرته بأنه قد تم وضع فايثون بين النجوم ككويكب يحمل اسمه (كوكب فايثون)، وبذلك يستمر هيليوس في ركوب مركبته يوميًا ليطل على ابنه في السماء.

أما سيجنوس (الصديق المقرب لفايثون) فقد حزن عليه بشدة بعدما شاهده يسقط سقوطًا لا يُطاق، وكان يبكي عليه كل يوم. توسّل إلى الآلهة أن تحولّه إلى بجعة بيضاء كالثلج حتى يستطيع دفن صديقه، ومع كل يوم يبكي فيه كان عنقه يطول حتى تحوّل إلى بجعة لكن للأسف لم يجد صديقه أبدًا، فأشفقت عليه الآلهة ووضعوه بين النجوم كنجم، وفي إصدار آخر من الأسطورة يُقال إن سيجنوس عثر على صديقه ثم تحول إلى نجم.

لوحة برنارد بيكارت أُصدِرت عام ١٧٣١م.

في إصدار آخر من الأسطورة قيل إن زيوس حول بنات هيليوس إلى أشجار الحور عقابًا لهيليوس على ما حدث بينما أعطى هيليوس عربته إلى هاديس (إله العالم السفلي) بشرط أن يراقب ابنه نيابةً عنه.

لوحة بِعنوان أطفال الشمس لِيوهانس سادلر أُصدرت عام ١٥٨٥م.

** غالِبًا ما يُشار على فايثون بِاسم الشاب المنكوب أو النجم الساقط.

فايتون يقود عربة والده موجوده في قبة مدخل حمامات سيشيني في بودابست (المجر). 

📝 بِقلمي (اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، وارْحَمْني، وعافِني، واجْبُرني، وارْفَعْني، و اهْدِني، و ارْزُقْني).

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال