فن التحية في الثقافة التايلاندية: من الواي إلى السجود
الناشر : زُمردة-
تتعدد طرق إلقاء التحية حول العالم حسب ثقافة وتقاليد وعادات كل شعب عن الآخر، فبعض الناس يكتفون بالمصافحة باليد، وبعضهم الآخر يلجؤون إلى تقبيل الخد، أو العناق، أو لمس الأنف، أو الانحناء البسيط، وفي هذه المقالة سنلقي نظرة موجزة على آداب التحية في الثقافة التايلاندية تحديدًا سنتعرف على تحية الـ «واي» (الانحناء) والسجود.
الـ «واي» والسجود (الركوع) هما من آداب التحية وإظهار الاحترام المعتادة في تايلاند، والتي تنقسم إلى عدة مستويات حسب مكانة وأقدمية الشخص المُستقبَل وما إلى ذلك، فما هي هذه المستويات، وكيف يمكن إظهارها بالشكل الصحيح؟
أولًا الـ «واي»:
كلمة «الواي» تعني في اللغة السنسكريتية العبادة والتحية، ويعود أصلها إلى أوائل القرن الثاني عشر حيث كان يستخدمها التجار والمبشرون الهنود القدماء الذين جلبوا البوذية (نشأ الـ «واي» بدايةً من الهندوسية ثم تم تناقله) إلى أجزاء جنوب شرق آسيا، وأحيانًا يُعتقد أن تحية الـ «واي» ظهرت كوسيلة لإخبار الشخص الآخر بأنك لا تحمل سلاحًا بيديك (غير مسلح ولا تشكل أي تهديد له)، وبكلتا الحالتين أصبح الـ «واي» بعد ذلك جانبًا / لفتةً تقليدية تايلاندية (هوية وطنية) تعبّر عن التواضع والترحيب والتقدير لقيمة الشخص الآخر، ومن الجدير بالذكر أن تحية الـ «واي» تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو مستويات حسب المكانة الاجتماعية للأشخاص:
١) المستوى الأول (الأعلى): إظهار الاحترام للعائلة الملكية والرهبان والتماثيل الدينية كبوذا (عند المرور بالمعبد أو أي مكان ديني)، ويتمثل ذلك في انحناء الرأس قليلاً للأسفل أو للأمام مواجهاً الأرض بالنسبة للرجال مع ضم اليدين معًا بحيث تلامس أطراف أصابع الإبهام الحاجبين (يلمس السبابة الجزء العلوي من الجبهة) أما بالنسبة للنساء فيجب عليهنّ أن يثنين إحدى قدميهنّ إلى الخلف (ثني قدم واحدة، تحديدًا الركبة) ثم يقمن بالخطوات السابقة من ناحية الأيدي.
٢
٢) المستوى الثاني (الوسط): يُعبّر عن احترام كبار السن بما في ذلك الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والمعلمون والأساتذة، ويتمثل ذلك بالنسبة للرجال في رفع اليدين معًا بحيث تلامس أطراف الإبهام طرف الأنف مع إمالة الرأس للأمام قليلاً أما بالنسبة للنساء فيجب عليهنّ أن يثنين إحدى قدميهنّ إلى الخلف قليلاً (ثني قدم واحدة، تحديدًا الركبة، ولكن ليس منخفضًا كما في المستوى الأول) ثم يقمن بالخطوات السابقة من ناحية اليدين.
٣) المستوى الثالث (الأدنى): يشمل عامة الناس وأي شخص مساوٍ أو أقل في المكانة و السن (كالأقران أو الأصدقاء)، ويتمثل ذلك بالنسبة للرجال والنساء في الانحناء للأمام قليلًا (طفيف) مع وضع اليدين معًا على مستوى أو طرف الذقن (بحيث يلمس إصبع الإبهام طرف الذقن)، وتلامس أعلى السبابة الأنف.
آداب أداء تحية الـ«واي» واستقبالها: للقيام بالتحيات السابقة يجب بدايةً أن تكون اليدان مضمومتين وموضوعتين بالقرب من الصدر ثم يتم تطبيق التحية بحسب المستويات المختلفة أما الشخص الذي يستقبل التحية، فيجب عليه كبادرة لطيفة وضع يديه مضمومتين بالقرب من الصدر مع إبقاء رأسه مستقيمًا، أو بإرادته يستطيع إنزاله قليلاً مع الابتسامة والتواصل البصري أما أفراد العائلة الملكية أو الرهبان، فلا يلزمهم حني رؤوسهم، بل يكتفون بالإيماء أو بالكلام أو بالابتسامة تعبيرًا عن حسن النية، ومن ذلك نستنتج أن كلما ارتفعت الأيدي وانخفض الرأس باتجاه اليدين ازداد الاحترام الذي يُظهر أما بالنسبة للأشخاص الغرباء، فيُفضل وضع الأيدي عند مستوى الرقبة والصدر، وليس فوق الذقن كما لا ينبغي أداء تحية الـ «واي» مع الأطفال والأشخاص ذوي الوضع الاجتماعي الأدنى، بل يكفي لهم الابتسامة فقط.
* أثناء الاستماع إلى العظة أو الصلوات، أو أثناء الحديث مع راهب يجب أن تكون اليدان مضمومتين وموضوعتين بالقرب من الصدر احترامًا للمناسبة وللشخص.
هل يُستخدم الـ«واي» والسجود فقط للتحية؟ لا، الـ«واي» يُستخدم في طرق عديدة للتعبير عن الاحترام، والامتنان، والاعتذار (طلب المغفرة أو إظهار الندم)، والشكر، والوداع (تمني الخير لمن يغادر)، وكذلك التوسل والدعاء.
ثانيًا السجود (أبهيفادا): السجود يعبر عن التعظيم والاحترام، ويُستخدم فقط للعبادة وفي المناسبات الخاصة إذ يمثل أقصى درجات الاحترام، مثل الانحناء لقدمَي الوالدين، أو الانحناء في حفل الزواج (حيث تنحني العروس إلى حضن العريس)، وقديمًا كان من المعتاد أن تنحني الزوجات لأزواجهن يوميًا قبل الذهاب إلى النوم تعبيرًا عن الاحترام والتقدير.
ينطوي السجود على استخدام جميع الأعضاء الخمسة، وهي الجبهة واليدان والمرفقان والركبتان حيث تلامس كلتاهما الأرض تحديدًا يجب أن ينحني الساجد بحيث تلمس هذه الأجزاء الأرض.
بدايةً في الخطوة الأولى يجب على الرجال الجلوس على الكعبين بوضع القدمين منتصبتين في وضع عمودي مع تباعد الركبتين بما فيه الكفاية ثم وضع راحتي اليدين للأسفل على الفخذين بجانب الركبتين أما النساء فيجلسن على الكعبين بوضع القدمين في وضع أفقي (أي القدمان مسطحتان والركبتان قريبتان من بعضهما البعض) ثم يضعن راحتي اليدين للأسفل على الفخذين.
الخطوة الثانية (أنشالي) فتتم بوضع راحتي اليدين عند مستوى الصدر بزاوية ٤٥ درجة ثم في الخطوة الثالثة (واندانا أو وانتا) يخفض الساجد الجبهة ويرفع راحتي اليدين الملتصقتين حتى تلمس الإبهامين بين الحاجبين، وتلامس أطراف السبابة الجبهة أما الخطوة الرابعة (أفيفادا) فيجب على الرجال السجود بوضع راحتي اليدين والذراعين على الأرض (المستوى الأول) بحيث تلمس الجبهة المساحة بين اليدين، ويُوضع كل مرفق جانبًا أمام كل ركبة مع عدم ثني الظهر، والركبتان مستويتان على الأرض أما النساء فيجب أن يسجدن بوضع راحتي اليدين والذراعين على الأرض أيضًا بحيث تلمس الجبهة المساحة بين اليدين، ولكن مع تباعد المرفقين قليلاً، وفي الخطوة الرابعة تُكرر هذه الخطوات السابقة مرتين أخريين ليكون المجموع ثلاث مرات.
٢) سجود للكبار: تعبيرًا عن التواضع يجب على كلا من النساء والرجال الجلوس في وضع القرفصاء أي الجلوس جانبيًا مع طي الساقين إلى الخلف ثم يتم الانحناء أو السجود مرة واحدة فقط إلى الأرض بحيث يُوضع نصف الذراع من المرفق إلى اليد على الأرض مع رفع حافة اليد، بالتحديد يكون الكوع الأيمن على جانب الجسم، والكوع الأيسر عند الركبة اليمنى، ويجب أن تلامس جبهتك الجزء العلوي من راحة يدك بعد ذلك يتم تغيير الوضعية بالرجوع إلى الجلوس مع ضم اليدين، وأخيرًا الوقوف.
ملاحظة إضافية: لا يتعيَّن عليك رفع أصابعك لتلامس جبهتك، ويُكتفى بالانحناء مرة واحدة فقط، وخلال الخطوة الأولى من الجلوس يجب المشي أو الزحف على الركبتين قبل الركوع، وعند الانتهاء ينبغي الرجوع بالركبة إلى الخلف قليلًا ثم المغادرة دون إدارة الظهر.
ثالثًا التحيّة الملكيّة: ١) تقليدٌ ملكيّ يتمثّل في تقديم الاحترام للملك في الاحتفالات الملكيّة (إشادة بالملك)، و ينقسم إلى ثلاث إيقاعات: يتكوّن من الجلوس جانبيًا على الأرض والساقين مطويّتين إلى الخلف وإلى الداخل ثمّ رفع اليدين ووضعهما بالقرب من الصدر ثمّ يتم رفع اليدين بحيث يلمس طرف الإبهام الجبهة ثمّ يجب النظر إلى الأعلى قليلًا ثمّ يُعاد اليدان إلى مستوى الصدر، وتُكرّر هذه الإيقاعات ثلاث مرّات، وفي النهاية تُوضَع اليدان باتجاه الأسفل. * في المناسبة غير الرسميّة يُكتفى بذلك مرّة واحدة أمّا في الرسميّة فيُؤدّى ثلاث مرّات.
٢) السجود يُستخدم لتعظيم وإجلال الملك وصولًا إلى أفراد العائلة الملكيّة حتّى لصورهم، ويتم ذلك من خلال الجلوس مع ثني أصابع القدم إلى الأسفل ثمّ الانحناء للأسفل مع ملامسة المرفقين للأرض، ووضع ركبة واحدة فقط تحت الجسد، وتشبيك اليدين عند السجود (وضع اليدين معًا وخفض الرأس للأسفل مع ملامسة الجبهة لأعلى كفّ اليد) ثمّ يتم الرجوع للجلوس في وضعيّة القُرفصاء المعتادة مرّةً أُخرى.
٣) تقديم الاحترام بالطراز العالمي إمّا كما في "المستوى الأوّل الأعلى للواي" (حيث ينحني الرجال، وتقوم النساء بالوقوف على نصف رجل)، أو من خلال الوقوف بشكل مستقيم والوجه مُتجه نحو جلالة الملك ثم الانحناء بالرأس وثني الجزء العلوي من الجسد بدرجة مناسبة مع إبقاء الأذرع قريبة من الجانبين، والعيون مُوجهة إلى الأسفل.
إلغاء السجود في عهد راما الخامس: تمرُّدٌ حضاري على طقوس الخضوع بعدما انتقد الغربيون عادة السجود، واعتبروها مظهرًا من مظاهر الإهانة للكرامة الإنسانية وُصفت الطقوس القديمة بأن «الطريقة التي يُعامَل بها خدم الوزير تشبه معاملة العبيد، وهو أمر مهين يدوس على الإنسانية فعندما يتحدّث الوزير يظل الجميع ساجدين على الأرض، ولا يجرؤون على النظر في عينيه، وحتى عند تقديم المشروبات يزحف الخدم على أكواعهم وأصابع أقدامهم ببطء كالحيوانات» لذلك أصدر جلالة الملك شولالونجكورن (راما الخامس) ملك تايلندا في بداية عهده عام ١٨٧٤م قرارًا بإلغاء عادة السجود لجلالته مهما كلّف الأمر مكتفيًا بانحناءة رأس تُقدَّم بأسلوب حضاري راقٍ لكن جهوده ذهبت سُدًى إذ أعيد إحياء تقليد السجود لاحقًا في عهد راما التاسع، فعاد الطقس القديم إلى الساحة محمَّلًا بهيبة الماضي وظلاله.