أسطورة جيكنيو وجيونو: مجرة الحُبّ والانتظار

في الفضاء الرحب حيث تتلألأ النجوم كدموعٍ معلّقة بين ضلوع السماء تتردّد أسطورة خالدة همسًا على ألسنة المجرّة عن حبٍّ مفجعٍ نسجته السماء بخيوطٍ من حنينٍ وألم بين عاشقَين فرقتهما الإرادة الإلهية، وجمع بينهما الشوق المستحيل، وفي هذه المقالة سنغوص في أعماق تلك الحكاية السماوية نستعيد تفاصيلها، ونلامس رموزها، لنستبين ما تخفيه من معانٍ عن الحبّ، والفقد، واللقاء الذي لا يأتي إلا مرّةً في العام.

المشهد الأوّل: الحائكة والراعي  

كان في قديم الزمان في أعماق الكون البعيد فتاةٌ جميلةٌ عذراء تُدعى جيكنيو، ويعني اسمها "الحائكة"، لم يكن اسمها مجرّد لقب، بل كان مرآةً لجوهرها، فقد اشتهرت بأنها أمهر من نسج القماش في السماوات، لا تكلّ ولا تملّ، تعمل طوال اليوم بصبرٍ وإتقان، و لأنها مجتهدة لا تعرف الكلل أحبّتها الملائكة وباركها الجميع، وقيل إنّها ابنة أو حفيدة "الإمبراطور اليشم" (الملك السماوي العظيم)، وعلى الطرف المقابل من المجرة وُلد شابٌ وسيم لا يقلّ عنها اجتهادًا وإخلاصًا يُدعى جيونو، ومعنى اسمه "راعي الماشية"، وتمامًا كاسمها كان اسمه هو قدره فقد عُرف بأنه أفضل راعٍ في السماء يرعى قطيعه بعناية، ويهيم بين النجوم كأنّه أحدها.

المشهد الثاني: حين تنسج السماءُ قَدَرًا 

وبما أنّ جيونو وجيكنيو كانا منشغلَين بعملهما حدّ الانغماس لم يُفكّرا قطّ في الزواج، ولا حتى في الالتفات إلى حياتهما الشخصيّة لكنّ السماء لا تخلو من الثرثرة، فراح أهلها يتهامسون: «لو تزوّج جيونو وجيكنيو، لكانا ثنائيًا رائعًا!»، وتقول إحدى الروايات إنّ جيكنيو بينما كانت تنسج في هدوء ألقت نظرةً خاطفة من نافذتها، فرأت جيونو، وخطف قلبها من النظرة الأولى، ومهما يكن فما إن وصلت تلك الهمسات إلى مسامع الإمبراطور اليشم حتى قرّر أن يجمع بينهما، فزوّجهما بنفسه مباركًا اتحادهما السماوي.

 

المشهد الثالث: حين يغضب اليشم 

بعد الزواج سرعان ما وقع الاثنان في حبٍّ عميق، وانشغلا بسعادتهما إلى حدّ الإهمال. لم يعودا يلتفتان إلى عملهما، وفضّلا قضاء الوقت معًا على أداء واجباتهما السماوية وهكذا تراجع نسج القماش وتباطأت رعاية الماشية، وأصبح جيونو وجيكنيو متقاعسَين غارقَين في نشوة حبٍّ لا يُقاوم، وحين بلغ الخبر الإمبراطور اليشم استشاط غضبًا (أنذرهم مرارًا، ونبّههم إلى تقصيرهم) لكنّ قلبيهما المخمورَين بالفرح لم يأبها بتحذيراته فقرّر عقابهما في لحظة حاسمة: نفى جيونو إلى السماء الشرقية، وجيكنيو إلى السماء الغربية، وجعل بينهما نهرًا عميقًا يفصل بين العالمين هو نهر درب التبانة.

لم يكتفِ بذلك بل هدم الجسر الذي كان يربط بين ضفتي السماء، وحكم عليهما بأن يلتقيا مرةً واحدة فقط في السنة في اليوم السابع من الشهر السابع في عيد تشيلسوك. حاولا أن يتوسلا إليه، بالدموع والانكسار، ولكن الإمبراطور كان عنيدًا جامد النظرات، وقال لهما: «توبا من ذنبكما، وأكملا عملكما، لعل الرحمة تجد طريقها إليكما» وهكذا خطا كلٌّ منهما طريق الفُرقة، والدمع في عينيه، والحنين في قلبه يعملان بجدٍّ في مهامهما، وكلّ منهما ينتظر ذلك اليوم الوحيد... يوم اللقاء.


المشهد الرابع (دموع السابع من تموز): ومرّ الوقت ثقيلًا كالعقاب حتى أتى أخيرًا اليومُ السابع من الشهر السابع (اليوم المنتظر) سار جيونو وجيكنيو على عجل، تتسارع خُطاهما نحو درب التبانة دون أن يُدرِكا حتى ألم أقدامهما أو وعورة الطريق، وحين وصلا أخيرًا إلى ضفّتي النهر السماوي لم يكن بوسعهما سوى أن يُنادي أحدهما الآخر، يحدّقان ببعضهما من مسافةٍ بعيدة لا تُطاق فالنهر الذي يفصل بينهما عميقٌ وجامح (أطولُ نهرٍ في السماء)، ولا جسر يربط ضفّتيه، ولا قارب في الأفق، وقفا هناك عاجزَين يهمسان بحنين لا يُسمع، ويبكيان بدموعٍ نازفة من القلب حتى تحوّلت دموعهما إلى أمطار غزيرة لا تنقطع غمرت الأرض وأغرقت الحقول، وجرفت معها الزرع والمنازل. جاعت الحيوانات، وضاع القوت، وماتت الماشية من الجوع، لم تحتمل الكائنات الحيّة هذا الألم السنوي، فصلّت مع القرويين إلى ملك السماء لكنّه بقي جامد القلب لا يستجيب، فتجمّعت الحيوانات من كلّ الأصناف، عقدت اجتماعًا في السهول و الوديان، وتداولت أمرها في همسٍ حزين: «هذه الفيضانات التي تعود كل عام تُهدّد حياتنا... دعونا نجد حلًا، فلْنُعد وصلَ الحبيبين، ولعلّ ذلك يُنهي هذا العذاب» عندها تقدّمت طيور العقاعير (من فصيلة الغرابيات) بخفّةٍ ونباهة، وقالت: «وماذا لو صنعنا نحن جسرًا بأجنحتنا؟ نقف صفًا صفًا، ونعبر درب التبانة لنُمهّد لهما الطريق؟» وافق الجميع، وأحيانًا كما تقول بعض الروايات كانت الحيوانات هي من توسّلت إلى طيور العقاعير أن تَحْلّق، وهي من زرعت فيها بذرة التضحية فرفرفت الطيور في السماء، وبدأت المعجزة تتشكّل...



المشهد الخامس (أجنحة العَقعق ووصال العاشقين): وعندما حلّ اليومُ الموعود (السابع من يوليو) رفرفت أسرابٌ من طيورِ العقعق بأجنحتِها من الأرضِ حتى السماء، وبدأت تصطفّ جناحًا إلى جناح، لتُشكّل جسرًا طويلًا يعبر مجرّة درب التبّانة عُرف منذ ذلك اليوم بـ"جسر أوجاكجيو / أوجاكيو"، فصعد جيونو وجيكنيو على الجسر، و سارا على رؤوس الطيور بهدوءٍ وخِفّة حتى التقيا في منتصف الطريق، وهناك حيث تلتقي السماءان تعانقا بكل ما في قلبيهما من شوق برفقٍ ولين خشية أن يُربكا توازن الطيور التي ساندتهما ثمّ انحَنَيا مرارًا يُعربان عن امتنانهما العميق لطيور العقعق التي منحت لحبّهما موعدًا، وطريقًا، وأملًا لا يُنسى، وفجأةً انشقّ السحاب وظهر ملكُ السماء يتنهّد بحيرة ويقول: «لا أفهم سرّ هذا الحبّ العجيب... ولكن يبدو أن لا مفرّ منه وبما أنني لن أُبطل لعنَتي كوني ملك السماء، فسأمنحكما هذا اليوم في كل عام ليكن السابع من يوليو موعدًا دائمًا تُحلّق فيه طيور العقعق لتُقيم جسر اللقاء. التقيا... ليومٍ واحد فقط».



المشهد السادس (وداع الفجر على جسر العَقعق): بعد مرور الوقت وكان الفجر قد بدأ يظهر في الأفق اضطرّ جيونو وجيكنيو إلى الفراق، فأدارا ظهورهما لبعضهما البعض، واتخذا خطوات ثقيلة متثاقلة، وظلا ينظران إلى الوراء ودموعهما تذرف ثم تحطم جسر الطيور وسقط ريشها على الجداول التي كانت قد بدأت للتو في الانخفاض.

* في نسخة كورية أخرى من الأسطورة وقع الاثنان في حب عميق، ولكن عندما اكتشف ملك السماء ذلك استشاط غضبًا متعجبًا كيف لأميرة أن تختار راعي أغنام! ففرض عليهما تلك العقوبة القاسية.
تنويه: يجدر بالذكر أن هناك عدة إصدارات مختلفة لهذه القصة في الثقافة اليابانية و الصينية لكنّها تتقاسم في الغالب نفس الأحداث الأساسية، وبخاصة النهاية الحزينة التي لا تُنسى.

ما هو مهرجان تشيلسوك أو تشيشي؟ هو مهرجان منتصف الصيف (حدث تقليدي خاص للاحتفال بالنجوم) يُقام في كوريا، الصين، اليابان، وفيتنام كل عام في اليوم السابع من الشهر السابع حسب التقويم القمري، وفي هذا الوقت يقترب نجما جيونو وجيكنيو كثيرًا من بعضهما مع وجود مجرة درب التبانة كحاجز بينهما في المنتصف، وقد ألهمت هذه الحقيقة قصتهما العذبة التي ترددت عبر الشعوب الآسيوية، وأصبحت جزءًا من تراثها الثقافي.

*كما هو معروف فإن أصل هذه الحكايات غير مؤكد لكنها تحمل في مهرجان تشيلسوك العديد من المعاني والرموز منها: يُقال إن طيور العقعق تفقد ريشها في هذا اليوم نتيجة لأن جيونو وجيكنيو كانا يدوسان على ظهورها أثناء عبورهما، فيصبحون جسرًا لهما فوق نهر درب التبانة، وإذا هطل المطر في الصباح فذلك يُقال إنه دموع فرحة لم شمل جيونو وجيكنيو أما إذا نزل المطر في المساء فذلك دموع الوداع والفراق، وإن لم يهطل المطر، فقد يؤدي ذلك إلى أضرار في المحاصيل خلال العام، ولهذا كان المزارعون يتجنبون الخروج صباحًا ظنًا منهم أن الآلهة تنزل إلى الحقول لتحديد كمية الحبوب المنتجة، ومن يخالف ذلك يتعرض للعقاب بخفض الحصاد، وتُعتبر مياه الأمطار في يوم تشيلسوك ذات خصائص طبية حيث يُعتقد أن الاستحمام بها يعالج الأمراض الجلدية مثل الطفح والدمامل ففي الماضي كانت العائلات تزور الينابيع المعدنية والشلالات في الأودية الجبلية للاستحمام في هذا اليوم تيمّنًا بهذه القداسة.

 

* يُعتبر اليوم السابع من الشهر السابع يومًا ميمونًا حيث تبدأ درجات الحرارة في الانخفاض تدريجيًا، ويحل موسم الأمطار والرياح الموسمية، فتُسمى هذه الأمطار بـ«مياه تشيلسوك». بعد سكب الماء النقي في وعاء فخاري يُصلي الناس طالبين الصحة والسلامة متضرعين لأن تنعم الحياة بالبركة والهدوء، وفي البيوت كان يُعدُّ طقس وداع خاصًّا يتضمن وجبات تقليدية مثل نودلز القمح، التي ترمز لطول العمر، وفطائر اليقطين المقلي لكن هذه العادة قد تلاشت مع مرور الزمن ولم تُمارس كثيرًا في العصر الحديث.


حقائق عن أسطورة جيونو وجيكنيو وأثرها الثقافي:

١) جسر أوجاكجيو في كوريا: سُمي أحد الجسور الشهيرة في كوريا باسم "أوجاكجيو"، وهو رمز حيّ لأسطورة جيونو وجيكنيو، ويُشير إلى جسر يمر فوق مجرة درب التبانة في السماء حيث تلتقي روحي العاشقين في يوم واحد من كل عام.


٢) تاناباتا في الصين واليابان: في الصين واليابان يُعرف اليوم السابع من الشهر السابع باسم "تاناباتا" أو "يوم العشاق"، وهو بمثابة عيد حب شرقي، وله مكانة كبيرة في القلوب بحيث يختار الكثيرون تسجيل زواجهم أو إقامة حفلات زفافهم في هذا اليوم المبارك.  

٣) رؤية النجوم في كوريا: في سماء كوريا يُمكن رؤية النجمان جينكنيو وجيونو بوضوح حيث تعد قلعة جيونو واحدة من ألمع النجوم الثلاثة التي تُرى في السماء، فعندما يظهر نجم جيكنيو يتبعه نجم لامع من مسافة قصيرة إلى الجنوب وهو نجم جيونو، ويحدث هذا اللقاء السماوي فقط في يوم تشيلسوك.



📝بِقلمي «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال