حكاية هونغ بو ونولبو الكورية بين الجشع والرحمة

هي إحدى الحكايات الشعبية الخيالية، وتُعتبر من أكثر الحكايات روايةً في كوريا الجنوبية والشمالية حيث تُروى للأطفال كل ليلة قبل النوم، فما هي هذه الحكاية؟ سنتعرف عليها في هذه المقالة بشيء من السرد والتحليل.

كان هناك في عصر مملكة جوسون شقيقان مختلفان كاختلاف الليل عن النهار أحدهما يُدعى "نولبو" الشقيق الأكبر، وكان لئيمًا وفظًا بينما في الناحية الأخرى كان "هونغ بو" الأصغر سنًا طيب القلب ومهذبًا.

في أحد الأيام وقبل أن يتوفى والدهما المريض أخبرهما بأن أمنيته الوحيدة أن يساندا بعضهما البعض، وأن يقسما ثروته وديًا بينهما. 

وفي إحدى الليالي الباردة عندما وافت المنية والدهما استولى نولبو اللئيم على كل الميراث من أموال ومنزل فاخر لنفسه، وطرد شقيقه الأصغر هونغ بو وعائلته دون أن يمنحهم أي نصيب (حارمًا إياهم من العيش في ثراء ثروة أبيهم)، فتوسل هونغ بو إلى شقيقه أن يسمح لهم بالبقاء معه حتى يجد لهم مسكنًا يأويهم لكنه تجاهله تمامًا، فلم يكن أمام هونغ بو و عائلته خيار سوى حزم أمتعتهم والعيش في الشوارع لبضعة أيام قبل أن ينتقلوا إلى سفح جبل ليبنوا لأنفسهم كوخًا صغيرًا على التل.

عمل هونغ بو بجدٍّ إلى أقصى ما يستطيع لكن لم يكن من السهل الاعتناء بأفراد عائلته الكُثُر (وقد قيل إن عددهم كان يتراوح بين ثلاثة أو خمسة أو حتى اثني عشر أو عشرين فردًا) ولهذا كثيرًا ما كانوا يضطرون لتفويت وجبات الطعام إذ لم يكن لدى هونغ بو خيارٌ سوى التوجّه إلى منزل شقيقه نولبو يستجديهُ ويتوسّل إليه طلبًا للمساعدة، وقد بلغ به الضيق حدًّا جعل أطفاله يتضوّرون جوعًا ويبكون بلا انقطاع.

قال له بتوسُّل: «أخي، إن أطفالي يتضوَّرون جوعًا ولا يكفّون عن البكاء... أرجوك أعطني ولو حصةً واحدة من الأرز» لكن نولبو سخر منه قائلًا: «ما كان عليك أن تُنجب هذا العدد من الأطفال! أليس ذلك واضحًا؟! لا أملك كيس أرز واحد لأعطيك إياه، ولن أمنحك شيئًا حتى لو تعفّن أرزي! اخرج من هنا في الحال!» وما إن همّ هونغ بو بالخروج حتى لمح زوجة أخيه وهي تُحضّر الطعام، فاقترب منها مترجّيًا: «سيدتي أرجوكِ... بعض الأرز فقط...» لكنها وقد كانت أكثر قسوةً من زوجها لم تكتفِ برفضه، بل صفعته بالمِغرف الصغير الذي كانت تستخدمه لغرف الأرز ثم صرخت فيه قائلة: «اذهب أيها المتسوّل! لن تحصل على ذرّة أرز منّا!»

وهكذا عاد هونغ بو خالي الوفاض يائسًا إلى منزله حيث تنتظره عائلته الجائعة. كان يضطر لحمل الأثقال والتعرض للضرب في المسابقات فقط ليحصل على شيءٍ يسير من الطعام، ورغم المشقة ظلّوا يُكافحون بصبر حتى أقبل الربيع أخيرًا.

وبعد انقضاء الشتاء القارس، وحلول الربيع جاء زوجٌ من طيور السنونو ليبنيا عشّهما تحت أفاريز كوخ هونغ بو، وسرعان ما فقست خمسة فراخ صغيرة من البيض.

وفي أحد الأيام حاول ثعبان ضخم التهام تلك الفراخ، فسارع هونغ بو إلى إنقاذها، وتمكّن من إبعاد الثعبان لكن للأسف كان الأوان قد فات على أربعةٍ منها إذ ابتلعها الثعبان أما الفرخ الخامس، فقد سقط من العش إلى فناء الكوخ وانكسرت ساقه، فأشفق عليه هونغ بو، وضمّد جراحه بعناية، واعتنى به حتى شُفي ثم أعاده إلى العش حيث استأنف نموّه، وحين أتى الخريف كان فرخ السنونو قد اشتدّ عوده بما يكفي ليُحلّق، فطار بعيدًا نحو الجنوب إلى أرضٍ سحريةٍ بعيدة.

وفي الربيع التالي عاد طائر السنونو وأحضر معه بثلاث بذور من نبتة القرع العسلي (اليقطين) ألقاها من فمه نحو هونغ بو، فالتقطها وزرعها مع زوجته، وسرعان ما نبتت البذور وأثمرت نباتات قرعٍ ضخمة أخذت تكبر وتنتفخ بشكل مدهش، ولأن العائلة لم يكن لديها طعام خرجوا من الكوخ لقطف القرع، فقرّر هونغ بو أن يمازح أطفاله بلعبة صغيرة، فقال لهم: «تمنّوا أمنية قبل أن نفتحه!» فصرخت الابنة قائلة: «أتمنى لو كان بداخلها ذهب!»، وقال الابن: «وأنا أتمنى أن يكون فيها أرز!» ثم تناول الأب السكين بصعوبة، وبدأ بقطع القرعة الأولى، فإذا بها تتفتح فجأة، وتنسكب منها عملات ذهبية و فضية كالكنز المنهمر، وحين شقّ القرعة الثانية سالت منها حبات الأرز البيضاء الوفيرة أما القرعة الثالثة، فلم يتمنَّ لها أمنية لكنها انشقت بطريقة سحرية من تلقاء نفسها، وخرج منها مجموعة من العمّال البنّائين الذين شرعوا في بناء منزلٍ جديدٍ لهونغ بو وأسرته.

وهكذا وفي لحظة تحوّلت عائلة هونغ بو إلى عائلة غنيّة تملك كلّ ما تحتاجه للعيش بسعادة وكرامة، وسرعان ما انتشرت الأخبار في أنحاء القرية عن ثروة هونغ بو التي هبطت عليه كالمعجزة في عشيّة وضُحاها حتى وصلت الأنباء إلى شقيقه الطمّاع (نولبو) فاشتعل قلبه بالحسد، وسارع إلى زيارة أخيه، وهو ينظر إليه بنظرات الاتهام والريبة قائلاً: «لا بُدّ أنك سرقتَ كلَّ هذه الأموال!» فأجابه هونغ بو وهو يومئ برأسه نفيًا: «لا، لم أسرق شيئًا... كلُّ ما فعلتُه هو أنني أنقذتُ بعض طيور السنونو» ثمّ قصّ عليه القصة كاملة منذ لحظة إنقاذه للعصفور وحتى مجيء الطائر إليه بالبذور السحرية.
استمع نولبو إليه بكامل تركيزه، وعيناه تلمعان بالطمع، وحين انتهى أخوه من الحكاية قال في نفسه: «إن كان الأمر بهذه السهولة، فسأفعل مثلَه... بل سأغدو أكثر غنى منه!» وهكذا دبّر نولبو خطّة جشعة ليُقلّد شقيقه لا حبًّا في الخير، بل رغبةً في التفوّق عليه وسرقة مجده.

حاول نولبو أن ينتظر آمِلًا أن يظهر له ثعبان حقيقي كما حدث مع أخيه لكنه كان قليل الصبر، فبعد مضي خمس ثوانٍ بالكاد لم يُطق الانتظار طويلًا، فما كان منه إلا أن التقط أحد طيور السنونو الصغيرة التي كانت تقف على سطح منزله، وكسر ساقيها عمدًا وبقسوة ثمّ لفّها بخيط كما لو كان يعالجها، وأعادها إلى العشّ متظاهرًا بالشفقة. 

بعد بضعة أيام طار طائر السنونو في السماء، وعاد لاحقًا حاملاً في منقاره ثلاث بذور من نبات القرع العسلي، وألقاها في فناء نولبو. سارع نولبو بزرع البذور، ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة حتى نمت ثمار القرع وكبرت حتى بدت و كأنها تُخفي كنوزًا لا تُقدّر بثمن، وفي يوم القطاف اجتمع نولبو وزوجته وأطفاله حول القرع الثلاث، وتمنّى كلّ منهم أمنية، قال نولبو بشغف: «أتمنّى الذهب والفضة!» وقالت الزوجة: «أريد أكياسًا من الأرز!» وقال الأطفال في فرح: «نُريد منزلًا كبيرًا!» لكنهم لم يكونوا يعلمون أن تلك الثمار كانت ملأى بالشرور عقابًا على أفعالهم الآثمة، فما إن شقّ نولبو القرعة الأولى حتى انهمر منها روث الحيوانات برائحة كريهة خانقة! وعندما فتح الثانية خرجت منها ثعابين سامّة تهمس بكلماتٍ واضحة: «هذان الاثنان فاسدان!»، ورغم الخوف والخيبة أبى نولبو أن يستسلم، وشقّ القرعة الثالثة على أمل أن تحمل له رجاءه الأخير... لكنّ القرعة الأخيرة انشقّت لتُخرج عفريتًا هائلًا مُخيفًا خاطبهم بصوتٍ كالرعد: «لقد نلتم جزاءكم! هذا عقاب من أساء للضعفاء» وفي لحظة ظهرت مجموعة من اللصوص وضبّاط الشرطة هجموا على المنزل، فدمّروه ونهبوا كلّ ممتلكاتهم، وضربوا نولبو وزوجته ضربًا شديدًا بالعصي، وصاح أحد الضبّاط: «يجب أن تُعاقبا على قسوتكما! على طردكما لهونغ بو و عائلته، وعلى طمعكما الذي فاق الحدود!».


وبين عشيّة وضُحاها صار نولبو فقيرًا معدمًا لا يملك لقمةً يُقدّمها لعائلته، وعندما أدرك خطأه توجّه راكعًا إلى منزل أخيه هونغ بو، واعتذر بكل خضوع فاستقبله هونغ بو (الطيب اللطيف) بيدٍ مفتوحة مُعطيًا من ثروته المال والطعام. قال له: «لدي الكثير من الغُرف والطعام لعائلتينا» فجمعتهم المحبة، وعاشت العائلتان معًا في سعادة دائمة لسنوات عديدة، وكانت طيور السنونو تعود إليهم كل ربيع، تحمل معها بشائر الخير والحياة.

* يُقال في إصدارٍ آخرٍ إنَّ هونغ بو استطاع إنقاذ جميع عصافير السنونو، وكانت البذرة واحدةً فقط تفرعت إلى أجزاءٍ وقاموا بقطعها بدون تمني (طار العصفور إلى أرضٍ سحريةٍ، وتحدث مع كائناتٍ غامضةٍ حول كيفية إنقاذ حياة هونغ بو).

الدروس الأخلاقية المستفادة من القصة:
١) الجشع آفة بشعة فعلاً تَعمى الإنسان عن رؤية أذى نفسه ومن حوله، وتحوّله إلى وحشٍ ينهش ما يملكه الناس من خير، فتكون نهايته دوماً خراب وبؤس كما رأينا مع نولبو اللي كان في الأصل شقيقًا، لكنه تحوّل إلى عدو نفسه.

٢) اللطف والتسامح صفات ربانية وأساس للرخاء الحقيقي. هونغ بو رغم المعاناة ظل لطيفًا مع أخيه، وأخيرًا لم يرفضه عندما عاد نادمًا. بهذا اللطف يتخطى الإنسان أعتى المحن لأن الخير قوة لا يفهمها إلا القلوب الرقيقة أما الجشع فغالبًا ما تكون له نهاية مظلمة.

٣) تقدير الأهل ومساعدتهم حتى لو ظلموك.

٤) تكرار النجاحات دون فهم جوهرها قد يقود للفشل: نولبو لم يفهم سر ثروة أخيه، فقام بتقليده بشكل أخرق، وهذا درس مهم لكل من يسعى للنجاح أن يحاول فهم الجوهر لا تقليد الشكل فقط.

٥) يجب عدم إيذاء المخلوقات البريئة مهما كانت صغيرة وضعيفة، فالرحمة تبدأ بهم، و كل فعل له رد فعل كما رأينا مع الثعبان والطيور.

هل كان قول نولبو: «لم يكن عليك أن تُنجب هذا العدد من الأطفال، أليس هذا واضحًا؟» خطأ؟ ليس بالضرورة فهو قول يحمل جزءًا من الحقيقة في سياق واقع اجتماعي صعب. هونغ بو ربما استهتر أو لم يخطط جيدًا لما لديه لكن كما قلت في العالم الحقيقي كثير من الفقراء ينجبون الأطفال لأسباب خارجة عن إرادتهم كعدم توفر وسائل منع الحمل أو الجهل، وهذا واقع لا يمكن تجاهله لذا القول ليس حكماً قاطعاً عليه، بل تأملًا في الظروف القاسية التي يعيشها.

معلومة قيمة عن أصل القصة: الباحث الذي حقق في خلفية قصة هونغ بو ونولبو اكتشف أمرًا مثيرًا: القصة ليست مجرد حكاية خيالية بحتة، بل هي مستلهمة من قصة حقيقية لرجلٍ أصبح ثريًا بعد أن طرد أخاه لكن تم سردها بأسلوب خيالي يمزج الحقيقة بالأسطورة. الأماكن التي جرت فيها الأحداث مثل القرى المذكورة سيونغري، وأيونج ميون، ونامون سي موجودة فعلاً على أرض الواقع، وهذا يجعل القصة أكثر قربًا وواقعية في أذهان الناس لهذا السبب تُقام كل عام في نفس المنطقة مهرجانات تحمل اسم "مهرجان هونغ بو" ليحتفل الناس بهذه القصة ويُحيوا ذكرى تلك الحكمة والتجربة التي تحملها مما يعكس عمق التراث الشعبي وروح المكان نفسه.

📝بِقلمي «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ، وَسِرَّهُ». 

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال