في رُكنٍ من زوايا الميثولوجيا الإغريقية حُفرت أسطورةٌ عن الفتاة أراكْني التي لم تكن تحمل سيفًا ولا تاجًا، بل مغزلًا ونولًا وخيوطًا من المهارة، فما حكايتها؟ وما الذي دفعها إلى مصيرٍ عنكبوتيٍّ لا يُمحى؟ هذا ما سنستكشفه في هذه المقالة.
المشهد الأول (من غزل الريف وُلِدت الأسطورة): أراكْني فتاةٌ عاشت في قريةٍ صغيرة من قرى "مملكة ليديا" الواقعة في ما يُعرف اليوم بأراضي تركيا، وتتنازع الروايات حول أصلها فيُقال تارةً إنها أميرة، وتارةً أخرى إنها ابنة التاجر "إيدمون دي ألفون" الماهر في صباغة الصوف بأعمق درجات البنفسجي، ويُقال أيضًا إنها ابنةُ راعٍ بسيطٍ للغنم.
المشهد الثاني (غرورٌ على نول المجد): أظهرت أراكْني منذ سنٍّ مبكرة شغفًا شديدًا بفنون النسيج والتطريز. سعت بكل حماسة إلى تعلُّم هذا الفن، ومع مرور الوقت تطوّرت مهاراتُها حتى أصبحت نسّاجةً ماهرة يُضرب بها المثل في البراعة والدقة وسرعة الأداء. ذاع صيتُها في الأرجاء، وراح الناس يتزاحمون لمشاهدة خيوطها وهي تتراقص تحت أناملها كأنما يُحرّكها سحرٌ خفيّ بل إن الحوريات أنفسهن كنّ يُغادرن مواطنهن بين الأنهار والبحار والجبال، ويتركن لهوهن فقط ليشاهدن أراكْني وهي تنسُج، وكانت الحوريات يتناقلن فيما بينهن أن تلك المهارة لا بدّ أنها هدية من إلهة النسيج "أثينا" إذ كان المعتقد السائد في العالم اليوناني القديم أن المواهب الاستثنائية ليست من صنع البشر، بل هباتٌ تُمنَح من الآلهة، وعلى البشر أن يُقابلوا تلك الهبات بالامتنان والشكر لكن أراكْني رفضت هذا الاعتقاد، وتكلّمت بكبرياء متعجرف، وقد استبدّ بها الغرور فقالت متحدّية: «لم يُعلّمني أحد لقد علمتُ نفسي بنفسي، ولا فضلَ لأحدٍ عليّ! أنا حائكةٌ أفضل من أثينا نفسها، فلتأتِ ولتبارزني، وإن انتصرت عليّ، فلتفعل بي ما تشاء، وسنرى من منا تستحق أن تُدعى إلهة الغزل!»
المشهد الثالث (غضبُ الإلهة المقنّع): فزعت الحوريات من جرأة أراكْني وتطاولها على الإلهة "أثينا" سيدة الحرب والنسيج، والمعروفة بمواهبها الكثيرة وبراعتها الفائقة في الغَزْل والحِرَف، ولأنّ إهانة الآلهة كانت في نظر الإغريق خطيئةً لا تُغتفر لم يمرّ وقتٌ طويل حتى بلغ أثينا خبرُ ادعاءات أراكْني الجريئة فاستشاطت الإلهة غضبًا لكنها رغم حنقها لم تُنزِل العقوبة فورًا، بل قررت أن تمنح أراكْني فرصةً أخيرة لتتراجع وتندم على حماقتها. تنكّرت أثينا في هيئة امرأةٍ عجوز، وتقدّمت نحو أراكْني، وقد عقدت العزم على أن تحذرها بلطفٍ أخير قبل أن تُختم الصفحة الأخيرة من مصيرها.
المشهد الرابع (تحذيرُ العجوز وتحدّي الغرور):نصحت أثينا أراكْني من مغبّة التباهي، وسعت إلى جعلها تعترف بأن مهارتها في النسج هبة من الآلهة قائلةً بصوت هادئ مفعم بالحكمة والوقار: «أنا أكبر منكِ سنًّا، فخُذي نصيحتي، فالعلم يزداد مع تقدم الأعمار. يمكنكِ التمتع بشهرتك بين البشر، ولكن بلا تطاولٍ على الآلهة، واستغفري عما قلته من كلمات جائرة أيتها الفتاة المتهورة، فقد تعفو أثينا عن روحك البائسة» لكن أراكْني ضحكت ضحكةً ساخرةً، ورفضت طلب المغفرة مدعية أنها لم ترتكب خطأ، وأن مهارتها هي ملكها وحدها، ولن ينال أيٌّ كان فضلها حتى ولو كانت أثينا نفسها. قالت بغرورٍ لا يخفيه: «لا يمكنكِ أن تأمريني بما عليَّ أن أفعل أنصحي أولادكِ أما أنا فسأفعل ما يروق لي» ثم بلا وعي لمن أمامها تساءلت مستفزة: «لِم لم تأتِ أثينا بعد لتتحداني؟ أهي خائفة من الهزيمة؟». شعرت أثينا بازدراءٍ عميق، ولأن أراكْني الساذجة لم تذعن لتحذيرها كشفت عن هويتها الحقيقية، وقبلت التحدي بشرط أن يكون زيوس (حاكم الآلهة) الحكم بينهما كما اشترطت أن يتعهد الخاسر بعدم لمس النول أو المغزل مرة أخرى، فلا نسج له بعد ذلك. قالت أثينا بحزمٍ: «إذا كان عملك أفضل من عملي، فلن أواصل النسج ما دام العالم باقيًا، ولكن إذا كان عملي أفضل من عملك، فلن تلمسي النول أو المغزل أبدًا!» شحُب وجه أراكْني خوفًا لكنها لم تظهر تواضعًا ولا طلبت المغفرة، وأجبرها عنادها على الوفاء بتحديها، وهكذا بدأت المنافسة الحاسمة.
المشهد الخامس (منافسة الأبطال على نول القدر): وقفت أثينا وأراكْني جنبًا إلى جنب كلتاهما تمسكان بنولهما الخاص، فتبدأ أثينا بنسج قماشها بحرفيةٍ متقنة مصورةً فيه عظمة الآلهة الأولمبيين الاثني عشر مع زيوس (مُظهِرةً إياهم في أبهى حلل العظمة والجلال على عروشهم) وأضافت أثينا في نسيجها قصة صراعها وانتصارها على بوسيدون (إله البحر) في المنافسة على مدينة أثينا موضحةً كيف نُسِبت المدينة باسمها تكريمًا لانتصارها، وفي زوايا النسيج نسجت ببراعة أربع مشاهد تحذيرية لبشرٍ مغرورين تحدوا الآلهة فواجَهوا عواقب مروعة لا تُحتمل إذ تحوّل كل منهم إلى كائنٍ آخر كعقابٍ مشترك على غطرستهم (كان الهدف من هذه المشاهد التحذيرية هو تنبيه أراكْني/ تحذير لطيف لكنها حازم بضرورة التوقف عن تفاخرها وغرورها) فدُهش المتفرجون من جمال لوحتها وروعتها التي تخطف الأنفاس أما أراكني تلك الطائشة فلم تأبه للتحذير، بل قدّمت تحديًا مختلفًا تمامًا في نسجها عن نسج أثينا فقد صورت على نسيجها بصورة سلبية الخطايا والجرائم التي ارتكبتها الآلهة ضد البشر مختارة أن تبرز نزواتهم الغرامية من أغواءٍ، واختطاف، واغتصاب، وكل ذلك لإشباع شهواتهم الخاصة تحديدًا نسجت ثمانية عشر نموذجًا للآلهة يظهرون فيها و هم يتحولون من شخصية إلى أخرى في سعيهم المحموم وراء النساء مجسدين بذلك خداعهم ومكرهم وسوء معاملتهم.
النهاية بألوان متعددة، وحكايات متفرقة:
۱) فازت أراكْني بفضل نسيجها المثالي الذي أذهل المتفرجين بلا عيوبٍ أو شائبة أما أثينا التي لم تستطع إنكار موهبتها استاءت من تصويرها المهين للآلهة، فتمزق نسيج أراكْني بيديها إربًا إربًا، ودمرت نوالها ثم ضربت جبهتها بالمكوك ثلاث مرات (المَكّوك: قطعة معدنية تُستخدم في نَوْل النسج لتحريك الخيوط وضغطها) بوحشية لا تليق إلا بالآلهة الغاضبة فخجلت أراكْني، وامتلأ قلبها بالحرج أمام الآلهة والمتفرجين، فربطت حبل النول الممزق حول عنقها، وشنقت نفسها على الفور فكانت عقوبة أثينا أن أعادتها للحياة على هيئة عنكبوت (رشت عليها جرعةً تحولت بها إلى ذلك الكائن العجيب) لتواصل النسج إلى الأبد، ولا تكتفي بذلك، بل ألقت لعنة على نسلها بحيث أصبحوا جميعًا عناكب لا يبرحون نولهم مدى الحياة، وفي بعض الروايات يُقال إن أثينا أشفقت على أراكْني قبل أن تشنق نفسها، فأنقذتها من الموت الإنساني، ولكن بثمن فقدان إنسانيتها، وأحيانًا يُقال إن أثينا عندما استاءت من فوز أراكْني لم تضربها أو تمزق لوحتها، بل حولتها على الفور إلى عنكبوت قبيح ذو ثمانية أرجل.
٢) انتصرت أثينا في المسابقة، فخجلت أراكْني وشعرت بالخوف والحزن لأنها لن تستطيع استخدام النول أو المغزل ما بقيت حية، وعندما رأتها أثينا في هذا الموقف استولت عليها الشفقة، فقررت أن تمنحها حلاً بديلاً دون أن تخرق شروط المسابقة، فرشت عليها سحرًا حوّلها إلى عنكبوت كي تستمر في النسج بلا مغزل أو نول، وفي بعض الإصدارات لم تقبل أراكْني هزيمتها، فشنقت نفسها، وفي إصدار آخر بعد فوز أراكْني لمست أثينا جبهتها بسحرٍ خاص لتعلمها التواضع والاحترام، فامتلأت بالخجل وشعرت بالذنب، وأنهت هذا الشعور بشنق نفسها، ولكن أثينا أشفقت عليها، وأعادت حياتها كعنكبوت، وهكذا مهما كان الطريق تبقى نهاية أراكْني واحدة: أن تتحول إلى ذلك المخلوق الثماني الأرجل، كعقابٍ أو كهديةٍ مسمومة تعيش بين خيوط النسيج إلى الأبد.
في أحد النُسخ النادرة من الأسطورة، يُقال إن أثينا أشفقت على أراكني لكونها من الطبقة المتدينة الفقيرة، فقررت أن تعلمها فنون النسيج سرًّا دون أن تظهر أمامها، وبما أن أراكني لم تَرَ أثينا أبدًا (كانت تقف خلفها وتوجهها بصمت) اغترّت أراكْني واعتقدت أن موهبتها فطرية لا تحتاج إلى معلم.
أما من أقزز النُسخ وأغربها، فقد ذُكر أن أثينا أثناء تعليمها لأراكْني النسيج علمت أيضًا شقيقها فالانكس (أو فيلانكس) فنون الدفاع عن النفس والحرب لكن بعدما تورط الشقيقان في ممارسة الزنا المحرّم (زنا المحارم) استشاطت أثينا اشمئزازًا وحولتهما إلى عناكب وبذلك حكمت الأسطورة بأن العناكب هي الكائنات التي تلتهم صغارها كتعبير رمزي عن العقاب الأبدي لخطاياهما.
فسّر البعض أن أثينا لم تسمح لأراكني بالموت لأنها كانت تدرك أن إبداع أراكني إن فُقد، فسيفقد معه أيضًا جزء من إبداعها هي ذاتها إذ إن مهارة النسج تلك هي امتداد لذات أثينا (أراكني مخلوقة على صورة الإله تحمل في روحها جزءًا من الرب، فهو جزء منه تجسّد في صورتها) ولذلك كان موت أراكني يعني موتًا جزئيًا للآلهة ذاتها فقررت أثينا أن تعيدها للحياة، ولكن على هيئة مخلوق قبيح ينسج النسيج هكذا أنقذت فنها لكنها لم تُعدها إلى صورتها البشرية.
الانتحار بين الهزيمة والتمرد: يُعدُّ الانتحار في العصور الحديثة رمزًا للاستسلام و اليأس، ويُنظر إليه كفعلٍ مشينٍ في أغلب الثقافات غير أن المفهوم ذاته كان مختلفًا في العصور القديمة إذ كان الانتحار يُعدّ فعل تمرّد، وشكلاً من أشكال الكبرياء الأقصى وكثيرًا ما كان المحاربون البشر (المتكبرون) يقدمون عليه حين يرفضون الخضوع لإرادة الآلهة أو قبول الهزيمة كما لو أنهم يقولون: «أنا وحدي من يملك سلطة القضاء على نفسي» وهكذا لم يكن موتهم هزيمة، بل إعلانًا للسيادة المطلقة على المصير، ورفضًا لأن يُملَى عليهم مصيرهم من خارجهم.
الأسطورة كأصلٍ للعناكب (إرث أراكني الأبدي): استخدم الإغريق أسطورة أراكني لتفسير ظهور العناكب في هذا العالم، بل ولشرح سلوكها الغريب في غزل الشِّباك بلا كلل كما لو أنّها لا تزال تنسج تحت وطأة اللعنة الأولى، ومن شدة حضورها في ذاكرتهم الأسطورية خُلِّد اسمها في العلم، فأُطلِق لفظ "أراكني" الذي يعني "العنكبوت" باليونانية على الفئة التصنيفية التي تضم العناكب والعقارب وكل الكائنات ذات الأرجل الثمانية إذ في مخيلة اليونانيين لم تكن أراكني مجرّد نسّاجة بارعة، بل هي أوّل عنكبوت خُلِق، وجميع العناكب التي تسكن الأرض اليوم ما هي إلّا ذريّتها (أبناء الخطيئة والفن) الملعونين بالغزل الأبدي.
تأثير أراكني على الفنون (رمزية الخيوط الملعونة): أثّرت أسطورة أراكني في عوالم الفن والإبداع عبر العصور إذ أُعيد تخيّلها بصورٍ شتى في هيئة كائن هجين نصفه إنسان ونصفه عنكبوت، وغالبًا ما جُسِّدت كوحشٍ مأساويّ، وقد ألهمت قصتها العديد من الأعمال الفنية والخيالية بدءًا من القصص المصوّرة والروايات الفانتازية وصولًا إلى المسلسلات التلفزيونية والأفلام الحديثة مثل عالم "مارفل" حيث يتجلّى تأثيرها في شخصيات نسائية ذات طابع عنكبيّ وقوة خارقة، وقد أثارت الأسطورة نقاشًا حادًّا بين الكُتّاب والمفكرين إذ رأى فيها بعضهم رمزًا للتمرد على السلطة الأبوية، وتجسيدًا للصراع غير المتكافئ بين النساء والرجال، فأراكني المرأة التي تجرأت على تحدّي الإلهة لم تُمنَح فرصةً للدفاع عن نفسها، بل تحوّلت إلى مخلوق قبيح وصامت لا صوت له ولا شأن، وهكذا أصبحت رمزًا لكل امرأة تجرؤ على الخروج عن الأعراف إذ تُقمع ويُسلب صوتها، ويُحكم عليها بالهامش والنسيان في حين فسّر آخرون الأسطورة بأنها تجسيد للهوس الإبداعي، والطموح الجامح نحو الخلود الفني حتى وإن كان الثمن لعنة أبدية أما البعض الآخر، فقد رأى فيها تمثيلًا لقدرة النساء على التفوق في مجالات عديدة، بل وتجاوز تفوق الرجال أنفسهم، لولا أن السلطة العليا بغضّ النظر عن جنسها تسعى دومًا لتأديب من يتحدّى النظام، وهكذا تظل أراكني بين الخيوط المتشابكة للأسطورة رمزًا معقّدًا يتنازعه التمرد، والموهبة، والعقاب، والتهميش، والخلود.
هذه اللوحة الزيتية التي تظهر في الأسفل تُعدّ واحدة من أشهر أعمال الفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز، وتُعرف باسم "الغزّالون" أو "حكاية أراكني"، وقد رُسمت بين عامي ١٥٩٩ و١٦٦٠.
تصوّر اللوحة مشهدًا يسبق لحظة تخلي أثينا عن تنكّرها إذ تظهر خمس نساء حافيات الأقدام يرتدين ملابس بسيطة وتعلو وجوههنّ ملامح التعب والإرهاق وعلى الجهة اليمنى نرى فتاةً صغيرة (أراكني) تلفّ الخيوط بين يديها، فيما تقف على اليسار امرأة مسنّة هي أثينا متنكّرة، وفي عمق المشهد تظهر غرفة أخرى تعجّ بنساء أنيقات وعلى يسار تلك الخلفية تظهر أثينا مرةً أخرى مرتديةً خوذة عتيقة وذراعها مرفوع في حركة توحي بالسلطة أو الغضب، وتُقابلها أراكني واقفة أمامها أما النسيج المعلّق خلفهما فيُظهر مشهدًا منسوجًا يُجسّد اغتصاب أوروبا (أحد المشاهد الجريئة التي حاكتها أراكني في تحدٍّ لآلهة الأولمب).