دهاء النجاة: الأرنب الماكر له ثلاثة جحور

في عالمٍ يموج بالاضطرابات والتقلّبات حيث تتداخل السياسة بالحِيَل، وتتشابك المصالح بالحِيطة تنبع الحكمة من رحم التجربة، وتتّخذ الأقوال الخالدة سبيلًا إلى العقول الحكيمة، ومن بين تلك المقولات التي ما تزال تتردّد في أروقة التاريخ تبرز مقولةٌ صينيةٌ قديمة تُشبِّه النجاة بدهاء الأرنب الذي لا يكتفي بجحرٍ واحد، بل يُعدّ لنفسه أكثر من مخرج توقيًا للمفاجآت، وسعيًا إلى السلامة، وفي هذه المقالة سنتعرّف إلى الحكاية التي وُلِدت منها هذه المقولة، وسياقها التاريخي، وما تحمله من حكمةٍ خالدة لا يزال صداها يتردّد حتى اليوم.

نبذة: تُنسَب هذه المقولة الصينية الشهيرة إلى "فِنغ شوان" مستشار اللورد مِنغتشانغ، وقد وردت في موقف شهير حين قدّمها كنصيحةٍ للورد خلال فترة "الممالك المتحاربة" في التاريخ الصيني.

 

الأرنب في الثقافة الصينية بين المكر والبقاء: قديمًا في الحضارة الصينية لم تكن الأرانب تُعرف بالذكاء، بل كانت تُوصَف بالحيلة والدهاء نظرًا لقدرتها الفائقة على الهروب من الحيوانات المفترسة، بفضل رشاقتها ويقظتها العالية تجاه الخطر، وخاصة البشر، ولهذا السبب كان للأرانب حضورٌ لافت في العديد من الحكايات والأساطير الصينية ومن أشهر تلك الحكايات ما ورد خلال حقبة الممالك المتحاربة حيث لم تكن الصين قد توحّدت بعد تحت رايةٍ واحدة، بل كانت أشبه بساحة معركة دائمة بين ملوكٍ متنازعين كانوا في الواقع مجرد أمراء حرب أعلن التابعون الكبار ولاءهم لهم، وسرعان ما نصبوا أنفسهم ملوكًا ما أدّى إلى احتدام الصراعات فيما بينهم سعيًا لتوسيع النفوذ وتأكيد الهيمنة ودرءًا لشبح السقوط.

في ظل هذا الوضع المضطرب أصبحت مهنة المستشار السياسي من أخطر المهن إذ كان على المستشار أن يتقلّب بين الولاءات، ويُوازن بين الحكمة والحذر، ليبقى بعيدًا عن مقصلة الخيانة أو نيران الانتقام السياسي.

المشهد الأول (مهمة الثقة بين اللورد والمستشار): كان اللورد مينغتشانغ / تيان ينغ (حاكم ولاية تشي / شيودي) يحب تكوين صداقات مع الكتّاب والحكماء، ويميل إلى مصاحبة الأشخاص ذوي الأصول الكريمة، ليشاركهم مناقشاتٍ عميقة في الشؤون الوطنية.

في أحد الأيام طلب اللورد من الحاضرين أن يجدوا شخصًا موثوقًا به لجمع الضرائب المستحقة (الديون) من السكان، فتطوع الذكي فنغ تشين لتولي هذه المهمة وقبل ذهابه سأل فنغ تشين اللورد عن كيفية التصرف بالضرائب التي سيحصّلها، فأجابه اللورد بثقة: «اشترِ كل ما ينقصنا في المنزل! انظر إلى ما نفتقده، واشترِه! أنا أثق في حكمك».

المشهد الثاني (حرق قسائم الضرائب): وعندما وصل فنغ تشين إلى ولاية تشي رأى أن جميع المديونين هم مزارعون فقراء، فبدلًا من أن يطالبهم بالديون أعلن نيابةً عن اللورد مينغتشانغ بكل جرأة أنه تم شطب جميع الديون، وأمر بحرق جميع السندات (عقود الديون لكل عائلة). اعتقد السكان أن هذا كان من لطف اللورد، ففرحوا كثيرًا بإحسانه، وأصبح هذا الحدث يُعرف فيما بعد باسم "حرق قسائم الضرائب من أجل العدالة" ثم عاد فنغ تشين إلى اللورد مينغتشانغ سريعًا، فسأله اللورد مندهشًا: «لم عدت بهذه السرعة؟ وما الذي أحضرته؟» فأجاب فنغ تشين: «أمرتني يا سيدي بأن أشتري لك ما كان ينقص منزلك! وبعد المراجعة تبين أن لديك كل أنواع الكنوز، والإسطبلات المليئة بالأحصنة، والعديد من النساء الجميلات، ومع كل هذا ينقصك في منزلك شيء واحد وهو العدالة لذلك اشتريت لك العدالة لتحصل على امتنان رعاياك» فسأل اللورد بفضول: «ماذا يعني ذلك؟ وما هي فائدته؟» فرد فنغ شوان: «أنت تمتلك إقطاعية واحدة فقط في شيودي (شيويه) وإن كنت تسعى وراء تحصيل الضرائب دون تعاطف مع الناس، فسوف تُكافح من أجل كسب قلوبهم» فغضب اللورد لما فعله فنغ شوان، واستاء لاستخدامه اسمه في إعفاء المزارعين من الديون بدون إذنه، ولأنه لم يستطع الرجوع عن القرار بعد اتخاذه قال بمرارة شديدة: «حسنًا».

المشهد الثالث (عودة اللورد مينغتشانغ واكتشاف قيمة العدالة): وبعد مرور وقتٍ يقارب العام تم إعفاء اللورد مينغتشانغ من منصبه كرئيس وزراء من قبل ملك تشي، وطُرد بدون أي ممتلكات. عاد إلى شيودي حزينًا ليستقر هناك، وقبل أن يصل إلى وجهته و بينما هو في منتصف الطريق استقبله شعب شيودي ترحيبًا حارًا وقرروا حمايته هو ومجموعته، وفي تلك اللحظة أدرك اللورد قيمة اللطف والعدالة التي اشترى له فنغ شوان، فشكره مرارًا وتكرارًا، وقال له: «الآن فقط رأيت ما اشتريته لي في العام الماضي» فرد فنغ شوان: «الأرنب الماكر الذكي يمتلك ثلاثة جحور ليتمكن من الهروب من الصيادين في حالات الطوارئ متجنبًا الموت في أوقات الخطر أما أنت فلديك جحر واحد فقط، ومع ذلك لا تستطيع الجلوس والاسترخاء بسهولة. من فضلك دعني أحفر لك جحرين اثنين آخرين (لترتيب مكانين إضافيين للاختباء حيث يمكنك أن تشعر بالأمان والطمأنينة)».

 

المشهد الرابع (رحلة فنغ شوان وتوصية اللورد مينغتشانغ): بعد أن اقتنع اللورد بنصيحة فنغ شوان أعطاه خمسين عربة وخمسمائة رطل من الذهب، فهرع فنغ شوان إلى خارج العاصمة متجهًا غربًا للقاء الملك "هوي ملك ليانغ"، وهناك أوصى فنغ شوان الملك بتوظيف مينغتشانغ لما يمتلكه من مواهب وقدرات عالية. قال تحديدًا: «إذا تمكن الملك هوي ملك ليانغ من دعوة اللورد مينغتشانغ لمساعدته في حكم البلاد، فمن المؤكد أن ليانغ ستصبح أقوى (أي دولة ترحب باللورد مينغتشانغ ستزدهر بلا شك)».

المشهد الخامس (الرد الملكي والهدايا التي أثارت القلق): نتيجةً لذلك أفرغ الملك ليانغ منصب رئيس الوزراء، وأرسل مبعوثين يحملون ألف قطعة ذهبية ومائة عربة سفر إلى اللورد مينغتشانغ ليدعوه إلى ولاية ليانغ، ليعدّه ليكون مسؤولًا مهمًا في حكم البلاد لكن فنغ تشين أبلغ اللورد مينغتشانغ بعدم الموافقة. 

جاء المبعوثون ثلاث مرات متتالية، فانتشرت الأخبار إلى ملك تشي، فشعر بالخوف والقلق (خلق العرض الباهظ للهدايا ضجة كبيرة) فأرسل الملك بدوره مبعوثين يحملون معهم ألف رطل من الذهب، وسيفًا قصيرًا للاستخدام الشخصي، وعربتين مزخرفتين تجرّهما الخيول، ورسالة مختومة بختم ملكي مكتوب فيها (مستنكرًا الملك لنفسه):
«كم كنت أحمق! لقد وقعت في شرك التملق مما أدى إلى الإساءة إليك وتعريض معابد أجدادنا وراعية دولتنا و عائلتنا للخطر. أناشدك بشدة للعودة وتوجيه شعبنا مرة أخرى».

المشهد السادس (ملاجئ السلام): فنصح فنغ شوان اللورد مينغتشانغ بأن يطلب من الملك قبل قبول عرضه نقل معبد أجداد الولاية ذلك الموقع المقدس الذي يحظى بحماية خاصة إلى منطقة شيويه، وبناء معبد جديد مع إرسال أدوات طقوس قرابين الأجداد إليه، فوافق اللورد مينغتشانغ وطلب ذلك من الملك الذي لبّى أوامره بنقل المعبد وبنائه في شيويه، وبعد إتمام ذلك قال فنغ شوان للورد مينغتشانغ: «الآن قد بنيت ملاجئك الثلاثة، ومن الآن فصاعدًا يمكنك رفع وسادتك والنوم بسلام».

شرح نصيحة الأمان: النصيحة الأخيرة كانت درعًا يحمي اللورد مينغتشانغ وقريته ومنصبه حتى عندما سيتم تسريح ملك تشي مستقبلًا، ومنذ ذلك الحين ظل اللورد مينغتشانغ مسؤولًا طوال حياته، لعقودٍ من الزمن دون أن تصيبه مصيبة أو تعصف به مصاعب. كانت مسيرته السياسية سلسة وميسرة بفضل "جحور الأرانب الثلاثة الماكرة" التي صنعها له فنغ شوان بحكمة وبصيرة.

 

الأسطورة بين الحقيقة والرمزية: ليس من الواضح ما إذا كانت القصة السابقة قد حدثت بالفعل أو ما إذا كان فنغ شوان رجلًا حقيقيًا، ومع ذلك حتى يومنا هذا لا تزال هذه المقولة تُستخدم بكثرة لوصف الأشخاص الأذكياء الذين يحرصون دائمًا على إعداد خطط هروب متعددة لأنفسهم أي وضع خطط احتياطية مسبقة لتجنب الكوارث المستقبلية التي قد تنشأ.

في اللغة الصينية الحديثة تُستخدم هذه المقولة أحيانًا للإهانة حيث تعني شخصًا ماكرًا ومخادعًا، واليوم صيغت المقولة بشكل محسّن لتصبح: «الأرنب الماكر سيكون له ثلاث فتحات في عرينه» أو «الأرنب الحكيم سيحفر له ثلاث ثقوب» في إشارة إلى أهمية التخطيط الذكي والاستعداد لأي طارئ.

狡猾的兔子三个窝_头条

العبرة الأخلاقية: وما دام حتى الأرنب بذكائه الفطري يحفر لنفسه ثلاثة جحور من أجل الأمان والحماية، فكيف بنا نحن البشر أن نتجاهل هذا الدرس؟ فمن البديهي أن نترك لأنفسنا مخرجًا إضافيًا، أملًا جديدًا، ومساحة أوسع للتطور فالمزيد من الخيارات يعني فرصًا أوسع لتحقيق النجاح، ورحابة في دروب الحياة تجعلنا نستقبل الغد بثقة وثبات.

📝بِقلمي «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». 

زُمردة

تعطُّشي لِلمعرِفةِ جعلنِي مُحِبة لِتَفسِيرِ ما أقرأُ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الإِتّصال